ما من شك، أنْ لا جديد في الموقف الأمريكي من حيث المضمون والأساس المنهجي والتَّاريخي تجاه التعاطي مع القضية الفلسطينيَّة ومستقبلها وذلك منذ ربيع عام 1949 على وجه التحديد؛ حيث كان هناك تغييرات جوهرية حدثت في ملاك وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس هاري ترومان وقد كان ذلك على نحوٍ مفاجىء جاء على خلفيَّة موقف طاقم وزارة الخارجية من موضوع اللاجئين، والدَّاعي وقتئذٍ إلى ضرورة تطبيق القرار 194 القاضي بالعودة الفورية للاجئين الفلسطينيين إلى الأماكن التي طردوا منها في عام 48، وقد وضعت تلك التغييرات سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه فلسطين في مسارٍ مختلف منذ ذلك الوقت؛ حيث التفَّتْ السياسة الأمريكيَّة على مسألة اللاجئين بل تجاهلتها تماماً منذ ذلك الوقت، وهو ما سينسحب فيما بعد على مجمل السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، فقد كانت تلك بداية الانحياز المطلق للرواية الإسرائيليَّة تجاه كافَّة جوانب ومجريات ووقائع الصراع، وكان ذلك قبل أنْ تنشأ وتتوطَّد علاقات إسرائيل بالولايات المتَّحدة على نحوٍ استراتيجي متطور باستمرار حيث بَدَتْ مع مطلع الخمسينيَّات من القرن المنصرم كما لو كانت نشأتْ على قاعدة علاقات شخصيَّة حميميَّة بين الرئيس آيزنهاور وبن غوريون.. ما من شك إذاً أن ليس هناك جديد، لكن ربما هناك تغيير في الشكل أو في إعادة صياغةِ تقليديَّةِ المواقف الأمريكيَّة بصيغٍ أكثر وضوحاً وأكثر مُباشَرة في عهد ولاية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب.
ربما الجديد إذاً هو ما يبدو من وضوح وفجاجة في الموقف الأمريكي – وبرغم أنَّ هذه الفجاجة بدت في غير مناسبة وفي أكثر من محطَّة إلَّا أنَّ ما لفت الانتباه إليها هذه المرة بشكلٍ دراماتيكي صاخب هو الإعلان الرِّئاسي الأمريكي عن التصديق على تطبيق قرار الكونغرس المتخذ في 22 أكتوبر/تشرين أول عام 1995 حول الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ وقد كان ذلك القرار في الحقيقة أكثر فجاجةً وابلغ إفصاحاً عن منهجيَّة وجذرية الموقف الأمريكي من إعلان الرَّئيس الأمريكي المصادقة عليه.
وربما الجديد اليوم هو أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وفي عهد الإدارة الحالية تقوم بدور استباقي مبادر يسير أمام – وقبل - وليس وراء السياسات الإسرائيلية، وذلك على خلاف ما تعودنا وخلال عقودٍ عديدة مضت من تقليديَّة الدور والهدف الأمريكي في المنطقة الذي كان يسير كظلٍّ للسياسات الإسرائيليَّة، والقائم تقليديَّاً وبديهيَّاً على أساس التعهد بالدفاع عن إسرائيل وحمايتها ودعم سياساتها إمدادها بكل أسباب القوة والتفوق، وبدور الوكيل الدبلوماسي الحاذق في تمويه والتغطية على السياسات الإسرائيليَّة وتمريرها تحت غطاء مفردات ومصطلحات الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة الإبداعيَّة البرَّاقة من حيث التراكيب اللفظيَّة والتي هامَ بها بعضنا طيلة سنواتٍ مضت، وحيث أدَّت دورها؛ والتي لم يعد لأمر استخدامها ضرورة أو لزوم بعد الآن وفي هذه المرحلة الجديدة التي تتحضَّر فيها الولايات المتحدة – وربما في موعدٍ وشيك نسبياً – للقيام وبشكلٍ مباشر وإلى جانب إسرائيل وربما قبلها وبمشاركة بعض العرب بحروب إقليميَّة في المنطقة ضد سوريا ولبنان، وذلك على ضوءِ تطورات الميدان في سوريا تحت عنوان مواجهة النفوذ الإيراني والتصدي للتغييرات في توازنات البنية والمنظومة الإستراتيجيَّة الدولية والإقليميَّة التي أفرزتها طبيعة التفاهمات والتحالفات الروسية الصينية الإيرانيَّة وصيرورة الأزمة السوريَّة التي جاءت نتائجها حتَّى الآن على غير ما اشتهته رياح السفن الإسرائيليَّة الأمريكيَّة، وهذا الأمر يجري الحديث عنه طيلة الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة وفي إسرائيل ويجد ترجمة عملية له في المناورات الأمريكية الإسرائيلية المشتركة المزمع القيام بها في الفترة القريبة. بإزاءِ ذلك يبدو الاهتمام بمشاعر الفلسطينيين أقل أهميَّة - من وجهة النظر الأمريكيَّة – ويبدو أنَّ أخذ مواقفهم على محمل الجد والانشغال بمناقشتها ومناقشة مستقبل التسوية السياسية ليس من ضمن أولويَّات وزارة الخارجية الأمريكيَّة، بل ربما أنَّ كل الموضوع الفلسطيني ليس مدرجاً على جدول أعمال الإدارة الأمريكيَّة راهناً؛ فثمَّة ما هو أهم.
أحياناً يبدو تحليل المواقف وردود الأفعال الفلسطينيَّة والعربية من السياسات الأمريكية مدهش على نحوٍ ما؛ إذْ يبدو أحياناً أنَّ لغة الاحتجاج والغضب تقومان على أساس العتب ومقدار كبير من خيبة الأمل، أكثر مما لو تعلَّق الأمر بالإدراك المنطقي والبديهي لطبيعة العلاقات الأمريكيَّة الإسرائيليَّة – السياميَّة – ولطبيعة الدور الأمريكي من حيث الأساس المنهجي الثابت والمستمر، وغير القابل للتحول كما تؤكِّد كل معطيات وشواهد التاريخ والسياسة والوقائع، وكل مخرجات منهج التحليل العلمي والمنطقي، كما كافَّة الدَّلائل !!. الأغرب من الموقف الأمريكي هو غرابة منطق اليقين بجدوى الإصرار على التعبير عن خيبة الأمل من الموقف الأمريكي، وهو أساساً شبهة اليقين بجدوى الإيمان بـ - والرِّهان على - إمكانيَّة تحول السِّياسات الأمريكيَّة إلى غير وجهة ضروراتها وأولويَّاتها التي أحدها – وربما – أهمُّها إسرائيل ودروها الوظيفي في المنطقة، وذلك على خلاف ما اعتقد البعض وعلى نحوٍ خاطىءٍ تماماً في مطلع التسعينيَّات من القرن الماضي؛ من أنَّ إسرائيل أخذت تفقد أهميَّتها الاستراتيجيَّة والوظيفيَّة بالنسبة للولايات المتحدة؛ الأمر الَّذي دفع إلى استنتاجات أكثر خطأً، وإلى نتائج أكثر فداحَةً، لجهة الإيمان بإمكانيَّة دورٍ دبلوماسيٍّ أمريكيٍّ فيه الحد الأدنى من العدالة أو الجديَّة لجهة تسوية متوازنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.