بقلم- علاء صبيحات
كلنا شاركنا في قتل أحمد مرتين أو مِرارا... الأولى عندما احتفظنا بتسجيلات ما صورته كاميرات محلاتنا، والثانية عندما عثرنا على المركبة المحترقة والمدفونة والثالثة عندما أشعنا نبأ استشهاده المرة الأولى والثانية عندما لم نكرمه ضيفا في مطاردته الرابعة عندما لم نحاسب من تتبعه من أبناء جلدتنا.
وأبكينا أمه مرارا، فإلحاحنا من أجل السبق أبكاها وأبكاني ..دعوها يا قوم فإن في بيتها عرس حزين.
إلى أحمد نصر جرّار، درسنا في الجامعة معا كنت أكبرك بسنوات لكنني أظنك كنت في سنتك الأولى عندما تخرجت أنا..منذ رأيت وجهك في الصور أثناء ملاحقة الاحتلال لك وأنا أعرف هذا الوجه جيدا إلى أن تأكّدت أنني رأيتك سابقا.
من أي طين جُبلت يا أحمد؟
بتُّ أعرفك أكثر وأكثر وبات الكل يكتب أحمد، كنا نتابع قصّة بوليسة بلهف الأطفال وصرنا –لقلة انتصاراتنا المعنوية- نتمنى أن تنسحب مرة أخرى ..بل إننا كنا كلنا ثقة أنك انسحبت أصلا وأن نتنياهو أخطأ خطأه الثاني بعد أن مجّد الجيش في محاولة اعتقالك الأولى التي أثخن فيها ابن عمّك أحمد إسماعيل جرّار فيهم وانتصر لك.. أو ثأر لك وله ..قبل أن يرتقي إلى جنة الخلد.
إلى أحمد ..منهم من وصفك بأحمد العربي ومنهم من وصفك بأرطغل، أتدري لماذا؟ لأننا نبحث عن بطل في زمن علت فيه صيحات الذئاب.. لأننا نفتقد الرموز ممن على قيد الحياة، لأننا اشتقنا وأقول اشتقنا أن يُبعث فينا أو منا رجل يرد كرامتنا.
أتدري يا أحمد؟ رسالتي هذه أعرف أنك تقرأها من بُعد آخر وأنّك تبتسم الآن وأعرف أن كل حروفي أنت شاهد عليها يا أحمد، وأعلم أنك لا تدري أتبكي أم تضحك أم تغضب على حالنا، واسي أمّك يا أحمد.. فأنت بت تعلم الآن لماذا ضمتّك بشدّة وودعتك بحرقة في اللقاء الأخير.. وطلبت منك طلبها الأخير الذي لم تستطع رغم بقائك على هذه الدنيا روحا وجسدا أن تنفذه.. أخبرتك أن عد مبكرا يا أحمد فأجبتها كما قالت ..غدا عملي في تمام الثامنة والنصف عليّ أن لا أتأخر.
يبدو أن القدر له خطة أخرى لك ولأمك ولنا جميعا، ذهبت إلى عملك مبكرا يا أحمد ونحن بقينا كسالى نعتمد على المصروف المعطي لنا من أمنا بكل مِنّة وقهر وقرف.. ونحن راضون بذلك الذل ورضينا بأشياء أخرى كثيرة مذلة لكننا سكتنا لأننا نريد حياة حتى لو مُذلة.
بماذا كنت تفكر في أيام المطاردة يا أحمد؟ هل شربت الشاي والقهوة؟ هل ودعت أمك سرا؟ هل لعنتنا؟ أو أقصد كم مرة لعنتنا يا أحمد؟ سامحنا يا سيد جرار فنحن أردناك بطلا ونلت ما أردت... لكن سؤالي الأخير بماذا كنت تشعر في آخر لحظة من حياة الدنيا؟
"بعد زفتك يا أحمد زفينا شهيدين اثنين واحد بالخليل وآخر في نابلس، طلعو معك بنفس الزفة شفتهم يا أحمد؟ يا رجل نيال إمك فيك أو نيالك بإمك" نحن متنا يا أحمد وأنت عشت فالتاريخ يذكركم وينسانا نحن غثاء السيل وأنتم السيل بذاته.
كل حروفي التي أكتبها اليوم باهتة تائهة وأراني أريد قول "نيالك" فتخرج على لساني رحمك الله، لم يصدق أحد وكلنا تمنينا كذب ادعائهم حتى صرنا نبحث عن أسباب تجعلنا ننفي أنك ذهبت لحياة أخرى، حتى أننا اخترعنا الحقائق وصرنا نؤلف الروايات البوليسية عن هروبك المنظّم ..صرنا نتخيل أنك تركت ثيابك مضرجة بدماءك ليقتنع الجميع أنك رحلت، كخطة تدبيرية لتختفي ثم تعود مزلزلا الأرض من تحتهم.
وصدقنا ذلك أكثر من خبر استشهادك ..حتى عندما تبلغنا بشكل رسمي صرنا نتعلق بأي شائعة تنفي خبر استشهادك ..ولا أدري ما السبب الفعلي لذلك أأننا نبحث عن ناصر لنا من قهرنا؟ أم أنك حالة استثنائية؟ أم لأنك انتصرت على كل من باعوا ثمار دماء من قبلك؟ أم لأنك أرعبت الاحتلال فعلا؟
هناك رائحة في الجو لا أشمها إلا حين أفقد عزيزا على القلب، هي منتشرة في الجو وأشمها منذ الأمس ولا أدري من فقد من ..نحن فقدناك ام أنك فقدتنا ولا ادري من يعزّي من وبمن أقول الرثاء.
أنا وإذ أكتب رثاء ..وأنت يا أحمد تقرأ الآن فاعلم يا أحمد أن شعبا أهين أقصاه ونساءه وصار فيه قلة من الذكور رجال واجتمع عليه القاصي والداني من دم العرب والأجانب فإنني أكتب رثاءنا ..فالرثاء يكتب في الموتى يا سيدي.