الذاكرة التي ترهقني تعود بي ثمانية أعوام إلى الوراء لتذكرني بحادثة أليمة لا أرغب بتذكرها. فقد حصلت على تصريح للقدس لمرافقة المرحومة ابنة عمي وصديقتي وزميلتي في التدريس في جامعة بيرزيت في سيارة الإسعاف وهي في غيبوبة الأيام الأخيرة من الحياة. سيارة الإسعاف ستقلنا من مستشفى رام الله إلى حاجز قلنديا حيث ستحضر سيارة أخرى من الجهة الأخرى لتنقلنا إلى مستشفى المطلع في القدس. كان ذلك في الثالث عشر من آب اللهاب عام 2010 الذي يصادف الجمعة الأولى في رمضان.
كانت هناك مواجهات وحجارة وغاز ومنع السيارات من الوصول الى الحاجز. وهنا اضطررت مع سائق الأسعاف أن ننزل قبل الحاجز بمسافة ليست بسيطة بعد أن أنزلنا الشابة المريضة على عربة النقل ونجرها وسط زخام السيارات والمارة والغاز المسيل للدموع و زحام الشارع بالمصلين العائدين من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى. بشق الأنفس وصلنا الحاحز الاحتلالي الذي يسمونه كذبا و"جحشنة" معبر قلنديا. وهنا منعنا الجنود من التقدم خطوة واحدة بحثا عن ظل نتقي به مريضتنا من حر الشمس اللاهبة.
ولم تنفع كل محاولاتي وسائق الاسعاف في البحث عن أي ذرة إنسانية منسية في زاوية من زوايا صدور هؤلاء الجنود. أعيانا البحث ولما نجدها. بعد أكثر من عشرين دقيقة اتصل سائق الاسعاف القادم من القدس بسائق الاسعاف الآخر يخبره بقدومه وأن علينا أن نلاقيه. كان على بعد بضع عشرات الأمتار عنا. وحدث السائق جندي الحاحز وتقدمت أدفع أمامي عربة غاليتي المريضة فوجئت بجندي يقترب مني قبيل وصولي ببضعة أمتار ليضع يده على مقبض العربة ويقول : عشان أساعدك. أبعدت يده وقلت لست بحاحة لمساعدتك. بسرعة أعاد يده على المقبض وانتبهت على صوت التقاط صورة. كان هناك شرطي يحمل بيده كاميرا. وعلى الفور أفلت الجندي مقبض العربة وابتعد.هذه الحادثة أتذكرها كلما دار حديث عن التطبيع والمطبعين . ويروق لبعض المدافعين و"الملطفين" لهذه اللعنة أن يخترعوا التبريرات والتحليلات التي لا تنم إلا عن خيانة أو نذالة أو انتفاع وفي حالة اعتمدنا على حسن النوايا نقول أنها تنم عن سذاجة وضيق أفق. فيدعون أنهم يريدون أن يسمعوهم وجهة نظرهم أو ...أو...
لا يدرك هؤلاء أن وجهة نظرهم ليست هي المهمة في التطببع وليس مهما ما يقولون حتى لو بصقوا بوجوههم. فهذا كله لن يظهر في الصورة التي يسعى إليها الإسرائيلي ليوصلها إلى العالم. فهو يسعى لصورة يظهر فيها إنسانا مهذبا خلوقا ولا مشكلة له مع الفلسطيني ولا مشكلة للفلسطيني فيه وفي وجوده. ولا مشكلة لديه لو التقط صورتك ثم قتلك بعدها. فقد كون روايته التي سيضحك لها عليك ويضحك على العالم بك.