بين الاستلام والتسليم، اختلاف كبير.
أنباء أولية تفيد أن بعض أقرباء منفذ عملية أرائيل تواصلوا مع أجهزة الأمن الفلسطينية لكي يُسلم عبد الكريم عاصي نفسه لهم في حين رفض الأمن الفلسطيني الطلب. أنباء أخرى أشارت قبل نحو أسبوعين، وهي أنباء غير مؤكدة، تشير إلى أن عاصي قد سلم نفسه فعليا لأجهزة الأمن الفلسطينية. ومع الميل لترجيح النبأ الأول، تظل أجهزة الأمن في معضلة كبيرة.
علينا أن نميز ما بين مرحلتين أساسييتين في بنية وتركيب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بما يشمل البنية الفكرية والعقائدية لتلك الأجهزة الأولى منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات حتى عام 2002، والثانية من 2002 – إلى الآن بما يشمل فترة رئاسة الرئيس محمود عباس.
المرحلة الأولى تميزت بأن الأجهزة الأمنية، التي كانت تنسق مع الاحتلال في حينها أيضا لم تكن قد وصلت من حيث نهج التعبئة الذاتية لأفرادها ليصل الأمر إلى مرحلة العقيدة أو التبني الكامل كما هو الآن، بدليل أنه في انتفاضة الأقصى عام 2000، شاركت الأجهزة الأمنية في التصدي للاحتلال في عملية اجتياح واسعة للضفة الغربية، دمرت فيها مؤسسات السلطة بما فيها مقار الاجهزة الأمنية.
حتى على المستوى السياسي نستذكر الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي حوصر في المقاطعة بعد أن قام جهاز المخابرات باحضار المتورطين في تنفيذ عملية قتل وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي إلى مقر الرئاسة، وأصر الرئيس عرفات في حينها على عدم مغادرة مقره كي يضمن عدم تسليمهم إلى الاحتلال الإسرائيلي، وباشر بإجراء محاكمة سريعة لهم فنفذ الاحتلال عملية "السور الواقي"، لولا "التواطئ" البريطاني الأمريكي الذي كان أفراده يحرسون منفذي العملية في سجن أريحا بانسحابهم لإفساح المجال أمام الاحتلال للدخول واعتقال المقاومين. (هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن كل السرد التاريخي لهذه الحادثة بحاجة إلى مراجعة حقيقية)
ما بعد عام 2003 اختلفت التركيبة كليا، تدخل الامريكيون بشكل كامل، مع جهات أوروبية وجهات دولية أخرى في إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بما يشمل على ما يبدو تمويلا خارج إطار الموازنة العامة والذي لم يتوقف رغم التهديدات الأمريكية بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية. التنسيق الأمني المستمر، رغم الإعلان عن نية الحكومة فك الارتباط وهو ما يتناقض مع طلب رئيس الحكومة، لقاء وزير المالية الإسرائلي كحلون، تجاوز حدود النصوص الواردة في اتفاقات أوسلو، التي لم يسمح إلا بتنفيذها والالتزام بها من طرف واحد هو الطرف الفلسطيني.
على أي حال، فيما يتعلق بمنفذ عملية أرئيل تظل الأمور تشكل معضلة لأجهزة الأمن التي تعلم تماما أن مجرد الموافقة على تسليم عاصي نفسه لها، فإن ذلك يعني، أنها تسلمه بنفسها لقوات الاحتلال، وبالتالي، سترفع من وتيرة الغضب الشعبي تجاهها، وإما أن ترفض تسلمها له، ويترتب على ذلك قيام قوات الاحتلال باقتحام مقار الأمن الفلسطيني، فيقرر عناصر الأمن إما الاشتباك معهم، وبالتالي دخولنا في مرحلة مختلفة من إدارة الصراع مع الاحتلال وهو ما لا يريده المستوى السياسي، وإما عدم الاشتباك مع جنود الاحتلال، ما يعني ترسيخ الصورة السائدة عن أجهزة الأمن بأنها متعاونة مع الاحتلال.
أما عدم موافقة أجهزة الأمن على تسليم عاصي نفسه لها هو تسليم بالمشهد الذي يحاول الاحتلال فرضه علينا دائما وهو أن مقاومتنا الآن ومقاومتنا بالأمس ومقاومتنا له في الغد هي إرهاب.
في حالة عاصي بالذات، وقبله الشهيد جرار، يقف القانون الدولي في صفنا، فهل نمنح أنفسنا فرصة حمايته؟
ماذا لو قرر المواطنون حماية مقر الأمن الذي سيحتجز فيه عاصي؟ هل يستحق الأمر المحاولة، هل بإمكان الشعب أن يخدم الأمن؟ هل بإمكاننا أن نوفر حاضنة شعبية للمقاومة؟
لعل الأمر يستحق أن نفكر جميعنا معا.