لدينا بالتأكيد أكوام من الهموم العربية/القومية والفلسطينية/الاقليمية خصوصاً ما يتصل منها بالسياسة والاقتصاد وتصدع النسيج المجتمعي...الخ ولذلك يؤسفنا الإصرار على تشتيت الانتباه عن القضايا الأعمق والأكثر شمولاً، لكن حياة أطفالنا ليست على الرغم من ذلك شأناً يستهان به. المشكلة أن "الخطاب الرسمي المعلن" يتحدث طوال الوقت عن "النهوض" بأوضاع التعليم والمدارس، لكننا نسمع قعقة ولا نرى طحناً على الإطلاق.
في فلسطين المصغرة كثيراً عن نسختها الانتدابية، ما تزال الممارسة الأوسع انتشاراً في مدارس الحكومة ووكالة الغوث هي قمع الأطفال واضطهادهم جسدياً ونفسياً، إضافة إلى ممارسة الحديث الممل عن تنمية التفكير والإبداع في حين أن الممارسة السائدة الأساس، ونخشى أنها الوحيدة هي التلقين من جانب المعلم، والحفظ الصم من جانب التلميذ.
ليست نيتنا في هذه العجالة أن نوجه اللوم إلى المعلم أو نجلده أو أي شيء من ذلك القبيل. من العبث فيما نتوهم أن نلوم جيش المعلمين الضخم على ممارسة يمارسها أفراده كلهم تقريباً. الأفضل أن نبحث عن السبب الكامن وراء ذلك. تقريباً لا يوجد معلم أو معلمة واحدة في مدراس الحكومة ووكالة الغوث ولا يمارس عنفاً جسدياً أو نفسياً أو لفظياً بحق الطلاب من نوع أو من آخر. الحق أقول لكم لو أنني –وقد عملت في مهنة التدرس في الجامعة وقبل ذلك في المدرسة ما يربو على خمسة عشر عاماً- ذهبت الآن إلى مدرسة الأمعري أو مدرسة قلنديا التابعتين لوكالة الغوث، أو إلى مدرسة سلواد التابعة للحكومة على سبيل المثال، لما تمكنت من فعل شيء يختلف عما يقوم به المعلمون والمعلمات الذين على رأس عملهم في هذه اللحظة.
حسناً، سيدي وزير التعليم في السلطة، وسيدي مدير التعليم في الوكالة أنتما تصرحان بأنكما تعدان العنف ممنوعاً في المدارس. بالطبع نحن نعرف أنكما تعرفان أن العنف موجود في مدارسكما مدرسة مدرسة، وصفاً صفاً، لكن هذا ليس بيت القصيد. ما نريد أن نسألكما عنه هو كيف يستطيع المعلم أن يقوم بالشرح وحفظ النظام والانضباط وإكمال المقرر وإجبار الطلاب على القراءة والقيام بالواجبات وهو يعاني من عدد في الصف الواحد قد يصل إلى خمسين تلميذاً؟ وهل فكرتما في الخلفيات التي يأتي منها التلاميذ والتي تتصف غالباً بالفقر وانتشار العنف في الأسرة والحارة والحي والمدينة كلها؟
ماذا يفعل المعلم في مواجهة خمسين طفلاً ضجراً محملاً بالمشاكل الأسرية والمجتمعية والنفسية وضغوط الفقر وقهر الاحتلال وألف ألف قصة مزعجة؟ ماذا يفعل المعلم مع طفل نقوم باحتجازه في غرفة ضيقة ليستمع إلى قصص مملة لا تعني له شيئاً، ويظل يفكر من لحظة دخوله المدرسة إلى لحظة المغادرة في الوقت الذي سيقرع فيه جرس النهاية: نهاية الحصة أو الاستراحة أو الدوام اليومي كله.
لا أريد أن أقول كلاماً رومانسياً "أهبلاً": ابنة أختي في السويد تحب المدرسة، وتحب أن تظل هناك وقتاً طويلاً.
أنا لم أشاهد في حياتي طفلاً يحب الذهاب إلى مدرسة الحكومة أو الوكالة. بصفة شخصية عندما كنت على مقاعد الدراسة كنت أعد المدرسة عدواً لا يقل شراً عن الاحتلال. كنا جميعاً متفوقين أو "تيوساً" نتفق على كراهية الاحتلال والمدرسة. وأتوهم أن معظم الأطفال ما يزالون يفكرون على هذا النحو. هل لديكما فكرة للنهوض بالأوضاع تختلف قليلاً أو كثيراً عن استعمال الكمبيوتر والتكنولوجيا في التعليم؟ لا بد أن بيل جيتس وشركات الحواسيب المحمولة والانترنت وما لف لفها تبتهج بدخول أعمال المعلم والعلامات وأعمال الطلبة في هذا النطاق، ولكن هذه التسهيلات الشكلية لن تغير في واقع التعليم شيئاً من ناحية أنه مكان للملل والقمع والاضطهاد والتلقين ومحو شخصية الطفل وحرمانه من طفولته وسعادته. وقد بالغت وزارة التعليم في السلطة الفلسطينية في هذا الأمر بقضمها حصص الرياضة والتربية الفنية لمصلحة مقررات ذات طابع ايديولوجي لا تسمن ولا تغني من جوع.
لسنا ننكر أن المعلم في حاجة إلى إعداد أفضل كيما يكون قادراً على تنفيذ عملية تعليمية/تعلمية عالية المستوى عامرة بالحب والفرح والتفكير. لكن ذلك يشترط استباقياً النهوض بأوضاعه المالية وزيادة أعداد المعلمين على نحو لا يقل عن الضعف من أجل تخفيض أعداد الطلبة في الصفوف.
تعرفون، لو كان عندي خمسة عشر تلميذاً في الصف فإنني لن أعدم السبل لإدارة الوقت معهم على نحو لا يخلو من الفرح والجمال والاحترام المتبادل، ولكن إن كان عندي أربعين تلميذاً أو أكثر، فقد انغلقت السبل أمامي باستثناء أن أقوم بكتم أنفاس الطلبة وإلقاء المحتوى على مسامعهم على أي نحو، ولن أجد الوقت للتواصل معهم أو للتعرف إلى صعوباتهم التعلمية ناهيك عن صعوباتهم النفسية أو الاجتماعية....الخ.
العنف الجسدي المباشر بالعصا والرفس واللكم، والشتائم البذيئة كلها تستخدم في مدارس الحكومة والوكالة طوال الوقت. الحق أقول لكم إن معظم المعلمين لم يعد يكترث حتى للتهديد بالشكوى لأية جهة، وذلك لأنه سئم التعليم والحياة ذاتها من ناحية في ظل بؤس أوضاعه المالية والمهنية، كما أنه يدرك أن المسؤولين لن يستطيعوا له شيئاً في ظل انتشار ظاهرة العنف على نطاق واسع جداً.
القصة أعقد من إصدار مرسوم بمنع الضرب، أو منع التلقين مع بث دعاية إذاعية عن أهمية الإبداع والتفكير. القصة الجوهرية هي رصد الموارد الضرورية للنهوض بالمعلم والمدارس، وهذه خطوة أولى على طريق تغيير الأوضاع. أما الخطابة عن زرقة عيون أجهزة بيل جيتس وأبل وسام سونغ فإنها تفرح الشركات الكورية والأمريكية وبعض المستوردين المحليين.
تغيير أوضاع التعليم يتطلب تغيير الإنسان، والسياق الذي يحيا فيه، وهذا أمر سياسي فيما نحسب، لأنه يتطلب قراراً من المستوى السياسي بأن نولي التعليم اهتماماً أكبر. وبالمناسبة لا يجهل أي مفوض في وكالة الغوث كيف تكون المدارس المعدة للسعادة والفرح والإبداع لأنهم على الأغلب يأتون من دول مثل السويد وكندا وما شاكلها، لكنهم لا يكترثون بالطبع للأوضاع البائسة لأطفال مدارس الوكالة. لكن ما الغرابة في ذلك؟ وهل يكترثون أصلاً لبؤس المخيم وسكانه اقتصادياً وصحياً ناهيك عن التفكير في حقهم القومي في العودة إلى البيوت التي طردوا منها؟
العنف في المدرسة مستمر في مدرسة الحكومة والوكالة، والتغيير الجذري مرهون بالسياسة لكن ذلك لا يمنعنا من القول بأن تحسن ثقافة المجتمع وخصوصاً قطاع المعلمين يمكن أن يخفف قليلاً من بؤس الأطفال في هذه المدارس. ولعل إمكانية التغيير هنا إنما تأتي أساساً من المعلمات والمعلمين الأكثر انتماء وإنسانية وإبداعاً، الذين يمكن أن يشكلوا قدوة لزملائهم، مثلما تأتي من اهتمام الأهل بمتابعة هذه الأمور في المدراس بالسبل الذكية العاقلة والمسؤولة.