الحدث ــ محمد بدر
منذ سنين وأنا أتابع وأقرأ وأكتب أحيانا تقارير عن الشهداء، في إعلامنا لا تستطيع التمييز بين الشهيد والشهيد إلا بالاسم والمنطقة الجغرافية وفي مرات نادرة في الطريقة التي قتلته إسرائيل بها.
في بيت الشهيد يتجمع الصحفيون لالتقاط الصور المؤثرة ويتسابقون لإجراء مقابلات مع أمه .. حتى كلام أمهات الشهداء أصبح روتين. لا أحد يسأل عن أم الشهيد في اليوم التالي، لا أحد يلتقط لها صورة وهي تبحث عن قميصه الأخير وعطره الأخير وعن الصحن الأخير الذي أكل منه، تنتهي مهمة السرد في اليوم الأول وتنتقل الكاميرا لمشهد مشابه في اليوم التالي.
في بيت قريب من بيت الشهيد أو بعيد منه، هناك ثكلى أخرى، لا أحد يعلم بها، ممنوع أن تلتقطها العيون تبكي فكيف بالكاميرا ! .. هي صاحبة الرسالة الأخيرة والحديث الأخير مع الشهيد، رسالته الأخيرة لها كانت "قلبك وقلب أمي أحب قلبين على قلبي" ..
في لحظة ما، من حق حبيبة الشهيد أن تحسد أمه،على الأقل كان لأمه امتياز رؤيته للمرة الأخيرة، وكان لها امتياز مصافحته، حبيبة الشهيد هي الوحيدة التي يحق لها أن تحسد أم الشهيد .. وتسير الجنازة على الشاشة ويسير الآلاف فيها على قلبها لا على الأرض. وتبقى تبحث عن وجهه المغطى بالعلم الفلسطيني حتى يتخيل أن كل علم فلسطيني شهيد وأن الشهيد هو كلمة سر العلم.
أذكر أنه في ذروة حرب غزة 2014، كنا في سجن النقب الصحراوي، وكنا نتابع الصحف الإسرائيلية لعدم وجود صحف عربية .. وقتها اكتشفت سر من أسرار الدعاية الإسرائيلية، لقد جعلني الإعلام الإسرائيلي أعيش الكابوس الذي حلمت به حبيبة الجندي القتيل، رأيتها تركض للباب وتعود للهاتف لتجد أن هاتفه مغلق وتخيلت سقوطها على الأرض من الصدمة، لقد رأيت آخر هدية منه لها في عيد الحب، وقرأت آخر رسالة واتس بينهما .. لم أراه يقتل ولم يشار إلى أطفال سحقتهم المدافع ولم يقل أحد أنه اشتبك ألف مرة في حياته، خطوا حياته بذكريات أهله وحبيبته.
هذا درس مهم لنا كإعلام فلسطيني، الشهيد ليس فقط ذلك الذي واجه الآلية العسكرية الإسرائيلية، الشهيد حيز لا ينتهي بلحظة استشهاده، ومرحلة من الذاكرة المستمرة وحياة تتجدد في وعي حبيبته وأهله، الشهيد يتواجد في كل شيء تواجد فيه، فلا تحرموه بعض الأماكن.
الشهيد كل الشهيد مهم، بضحكته وعصبيته وعناده وطيبته وكرمه، وإذا كان الحب خطيئة فلتكن خطيئته الوحيدة. أحب فلسطين وتلك الجميلة .. دعوا حبيبات الشهداء يتحدثن، إنهن ذاكرة تقتل وما أحوجنا إليها.