الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بلد الشبابيك / بقلم : ريم أبو لبن

2018-02-15 02:54:35 PM
بلد الشبابيك / بقلم : ريم أبو لبن

 

 

"الشبابيك" الغريبة قد تُفتح على ضوء الشمس لاستنشاق رائحة الورد المرسل من وسيم فرنسي، قد أجهد ذاته في اختيار ما قد يرضي إحدى نساء تلك المدن القديمة والمستلقية على أنغام موسيقى كلاسيكية.

 

"الشبابيك" في بلادي لا تُغلق أبدًا رغم قساوة المطر؛ وذلك ترقبًا لعودة أحدهم، أي عودة شهيد أو مطارد أو مُعتقل لدى إسرائيل. والعودة هنا مُحملة برائحة الدم أحيانًا، لا برائحة وردة بنكهة فرنسية.

 

حكاية تلك "الشبابيك" المعلقة والمطلة على ظلال نعشه، لا تروى إلا بصمت أنثوي مثقل بالهم، هي تلك الأم التي تلقت نبأ استشهاد ابنها من وراء "شباك"، وفي لحظة توشَّحت عيناها بالسواد، ورقدت بكل فخر بجانب نساء الحارة اللواتي قد أتقنَّ فنَّ الزغاريد والآهااات.. ومنذ ذلك الوقت وهي تقف على ناصية الحلم البعيد لتقول: "أعيد لي ابني ..".

 

"بلد الشبابيك" هي فلسطين... هكذا سُمت وأسميتها.

 

تستلقي تلك الأربعينية وبجسدها المتعب على حافة ذاك "الشباك" الأسود؛ لتسترق النظر خلسة إلى ابنها الذي أغمض عينه فجأة بعد أن اغتالته رصاصة إسرائيلية في صدره بحجة قيامه بعملية طعن، حجة واهية قد اتخذت ذريعة لقتله، وبهذا فقد زف نعشه من أمام ذاك "الشباك"، ودون أن تروي له والدته حكاية معطفه البني، فهي من أوصدت خيوطه ليرتديه كحلة في أول يوم عمل له. فأين ذاك المعطف وأين صاحبه؟

 

في أقسى الشمال حيث تتربع الحكايات على قصاصة ورق كانت قد خُطت بيد أحد أطفال مخيم بلاطة ومزقها في لحظة البوح بواقع يعيشه هو وأقرانه داخل المخيم، وكباقي المخيمات فهو الأكثر قربًا من حكاية رصد "الشبابيك".

 

كم من أمٍّ لم توصد دمعتها أمام رحيل ابنها، وكم من أب نجح في تقليد صبره، وهو يمسك بيده اليسرى مسبحته الذهبية ليذكر اسم الله، وهو يودع ابنه الشهيد الذي يرقد أمامه. كيف ستسعفنا اللحظة آنذاك في وصف حقيقة يعيشها أبناء المخيم تارة، وما تبقى من الشعب الفلسطيني تارة أخرى. هي لحظة تُنبئ بفتح "الشبابيك" مجددًا بعد أن أغلقت مؤقتًا برحيل شهيد آخر من المخيم ذاته.

 

توقفت عقارب الساعة عند الخامسة صباحًا في ذاك المنزل الصغير المطل على زهر اللوز في شتاء فبراير، أو كما تلقبه جدتي بـ "شباط الخباط"، حينها تتسابق قطرات المطر لطرق "الشبابيك" خلسة حتى تلك المفتوحة على مصرعيها، لتودع شهيدًا كان قد خرج صباحًا دون أن يُقبِّل جبين أمه أو أن يداعب لحية والده العجوز.

 

وما تبقى من الرحيل هو معاتبة صباحية للأم وابنها، فلن يفرَّ ابنها الشهيد هروبًا من تكرار سؤالها الموجع، وفيه عتاب مفاده: "لماذا خرجت دون أن تقبل جبيني كما تفعل يوميًّا؟".

 

قد تجذبك رائحة القهوة التي تعدها أم الشهيد، فهي لم تتوقف عن احتسائها رغم أنَّ ابنها هو من كان يجلب لها البن بعد يوم عمل طويل له في أحد محامص مدينة رام الله، تلك المدينة التي تعجّ بالحكايات أيضًا، وفيها كم من "الشبابيك" غير المغلقة.

 

ترتكز همومها على كرسي متحرك أسود اللون، فهي لم تعد تقوى على السير كما في السابق؛ بفعل مرض قد أثقل همتها وحرمها من زيارة قبر ابنها الذي يبعد عنها أمتارًا عدة، وهي بذلك تكتفي باستراق النظر إلى ابنها من وراء "شبابيك"، فكيف يحول ذاك" الخشبي" دون تمكن الوالدة من تزيين قبر ابنها بزهر اللوز، ذاك الزهر الضعيف والكثيف كبيت شعر لا يدون بالحروف.

 

يقول الراحل معاتبًا زائره: كيف يشع زهر اللوز في غيابي؟ وكيف لا تغلقون "الشبابيك" بعد رحيلي؟