هناك فرق كبير بين أولئك الذين يتعلمون من عثراتهم ومن يتعلمون من عثرات الآخرين فلا يقعوا في نفس الحفرة التي وقع بها غيرهم ومن لا يتعلم من تجارب الآخرين فلا أمل يرجى على الإطلاق بقدرته على اجتياز أية مصاعب قد تواجهه, أسوق هذا الكلام بعد أن أعلن مجلس النواب الأمريكي فرضه لعقوبات على الدول والجهات التي تقدم مساعدات لحماس وقبلها طبعا للجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية ومن قبلهم فتح والجبهة الديمقراطية ومنظمة التحرير بأسرها وطوال زمن ليس بقصير ظلت منظمة التحرير تسعى لان يزال اسمها عن قائمة الإرهاب الأمريكية وكأن تلك القائمة هي التي تصنف الإرهابيين من غير الإرهابيين رغم أن الجميع يعلمون جيدا أن الحركة الصهيونية ومنظمة آيباك الصهيونية تحديدا هي التي تضع تلك التصنيفات, واحد لم ينسى بعد كيف بدأت مسيرة منظمة التحرير للخروج من تلك القائمة حتى الوقوع بفخاخها كما هو عليه الحال اليوم.
منذ أن أعلن الراحل ياسر عرفات عن الميثاق الوطني الفلسطيني على انه " كادو " مستخدما هذه الكلمة الفرنسية التي راح المتحذلقين يطبلون ويزمرون لاختيارها لما لها من معاني بين الإلغاء والتقادم وان الراحل عرفات قصد باختياره لتلك الكلمة الفرنسية التملص من استحقاق إلغاء الميثاق وشطبه أمام الرئيس الأمريكي كارتر في حينها لكن الأمر وصل بنا بعد ذلك تدريجيا للوقوف معا أمام الرئيس الأمريكي كلينتون وفي غزة وفي اجتماع رسمي للمجلس الوطني الفلسطيني للتصويت رسميا على إلغاء بعض بنود الميثاق التي لا تريدها أمريكا وإسرائيل علنا وبلا أدنى خجل لا من الذات ولا من الأجيال سابقها ولاحقها.
بعد كادو الفرنسية جاء الإلغاء الرسمي بالعربية ومن فلسطين وعلى أرضها واليوم تتكرر التجربة مرة أخرى مع حماس التي سبق وان قدمت وثيقتها السياسية قبل أقل من عام تقريبا تلك الوثيقة التي قدمت لغة أكثر دبلوماسية واقل تشددا دون أن تتنازل عن ثوابتها إلا أنها جاءت مجاراة لعديد المطالبات الدولية لإرضاء الحلف الأمريكي وتقديم صورة لحماس مغايرة للصورة التي رسمتها أمريكا وفي حينه اعتبرت أمريكا الوثيقة خطوة إلى الأمام في حين هاجمتها بقسوة الجبهة الأخرى ممثلة بإيران وحزب الله ورغم أن الوثيقة جاءت تطويرا واضحا للفكر السياسي لحركة حماس وبالتالي للإخوان المسلمين إلا أن مثلبها الوحيد أن البعض اعتبرها مجاراة للمطالب الأمريكية لتغيير صورة حماس من حركة مقاومة جذرية إلى حركة يمكن لها أن تتساوق مع المشاريع الأمريكية الوهمية للسلام في المنطقة.
الوثيقة كانت الخطوة الأولى في مسلسل قبول فكرة إرضاء الإدارة الأمريكية وسياستها وان جاءت الوثيقة دون أية تنازلات عن جوهر المواقف التاريخية لحماس إلا أن الإدارة الأمريكية والمراقبين اعتبروها استجابة للضغوط الممارسة من قبل بعض على حماس لإرضاء أمريكا واليوم وبعد اقل من عام تعود أمريكا من جديد وكعادتها لأسلوبها في جرجرة الآخرين إلى المستنقع حيث تريدهم أن يكونوا, من خلال القرار الجديد لمجلس النواب الأمريكي بالتعاون مع الآيباك الصهيوني واخطر ما في الأمر أنها لا تطلب بل تصدر قرارات يسعى الآخرين للتخلص منها من طرفهم وحدهم دون أية التزامات من الجانب الأمريكي تجاه تنازلاتهم أو استجاباتهم للمطالب غير المعلنة للإدارة الصهيو-أمريكية.
اعتادت أمريكا وإسرائيل في تعطايهما مع الفلسطينيين والعرب أن لا يفوضوا ولا يقبلوا بالتبادلية فهم يعلنون أن المنظمة إرهابية ولا يطلبون منها التنازل عن شيء مقابل شيء فكل ما لدى أمريكا لتقديمه هو وضع الاسم على قائمة الأعداء أو إزاحته جانبا وبشكل مؤقت فحتى منظمة التحرير التي قدمت لهم كل ما يريدون وأكثر لم يسلم مكتبها من معاودة الإغلاق من جديد فور تململ قيادتها لغة من توقيع ترامب الرسمي على قرار الكونغرس التاريخي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
اليوم تسعى الإدارة الأمريكية إلى تركيع حماس والجهاد الإسلامي والنزول بهما عن قمة الجبل للتخلص كليا ليس من المقاومة فقط بل وحتى من خطابها وما اختيار اللحظة هذه لقرار النواب الأمريكي إلا لتهيئة الأرض للإعلان الترامبي عن سرقة القرن القادمة بتصفية القضية الفلسطينية فالرجل الذي سرق خزائن العرب في الخليج وحاول سرقة القدس علنا أمام العالمين الإسلامي والمسيحي يسعى لإتمام حفل السرقة لهذا القرن بشطب كل من يرفع شعار المقاومة والصمود والتصدي أو التحدي للإرادة الصهيو-أمريكية في العالم, تمهيدا لسرقة كل التراب الفلسطيني وتصفية القضية برمتها وإعادة رسم خارطة جديدة للمنطقة تكون إسرائيل جزءا أصيلا منها بل وقائدة للطلائع الامبريالية في مواجهة أي تحدي لإرادة أمريكا واللصوص الامبرياليين بما في ذلك إعادة صياغة جديدة لجبهات الأعداء والأصدقاء في العالم العربي بإدخال إسرائيل في الحلف العربي واعتبار إيران العدو المركزي ليس للعرب بالمعنى القومي بل للسنة بالمعنى الطائفي لإشعال نار الفتن وتقسيم العالم العربي على أسس عرقية طائفية مختلقة لا أساس أصلا لوجودها عبر التاريخ وفي سبيل ذلك فان الخطوة الأهم هي هدم جبال المقاومة ومن يقف على قمتها والتي تعتبر حماس اليوم في مقدمة أولئك الذين يقفون في مواجهة مشروع الامبرياليين الأبشع في العصر الحديث ولذا فان على حماس والجهاد وكل قوى المقاومة الأصيلة فصائل ودول أن تعي جيدا أن التنازل لن يصل بهم إلا إلى قاع المحرقة بعيدا عن تحقيق أية أهداف لا تريدها أمريكا وإسرائيل فلا بديل إذن عن الصمود والإمساك بقمة الجبل وبأهداف شعبنا في الحرية للشعب والأرض على طريق إسقاط كل المشاريع الصهيو-أمريكية في المنطقة والعالم.
المطلوب من حماس ليس التنازل عن المقاومة في سبيل الوطن بل التنازل عن الوطن في سبيل أمريكا وإسرائيل وان تصبح وغيرها جزءا من الدولاب الامبريالي لتدمير كامل المنطقة وتفتيتها وإخضاعها للإرادة الامبريالية وتحويل كل خيراتها وثرواتها إلى خزائن الامبرياليين الصهاينة بأسماء أمريكية, ولذا فان أية محاولة لإرضاء أمريكا بالنزول عن قمة جبل المقاومة ولو مليمتر واحد لن تكون إلا بداية الهبوط للقاع الامبريالي بلا ثمن.