الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل قدر المثقف أن يخون.؟ ناجح شاهين

2018-02-17 12:52:26 PM
هل قدر المثقف أن يخون.؟
ناجح شاهين
ناجح شاهين

لا بد أن ماركس على حق من ناحية المبدأ: ليس هناك من يعمل بدون غرض اقتطاع شيء من الكعكة الاقتصادية لكي يحصل على خبزه أو أكثر قليلاً أو كثيراً. وبتبسيط مخل علينا أن نلاحظ أن جمع المال بعد حد معين يتوقف عن أن يكون متجهاً نحو تحسين القدرة على الحصول على حد مرض من السلع الاستهلاكية وغيرها.

 

من نافلة القول إن أساطين المال والأعمال في القطاعات المختلفة الذين يملكون المليارات قد توقفوا منذ زمن بعيد عن التفكير في ثمن السجائر أو السيارات أو القصور، وأنهم إنما يسعون إلى امتلاك عناصر الشهرة والقوة والتحكم بمصير الآخرين على نطاق واسع.

 

ربما الكثير من الناس قد سمع بقصة رجل المال الأمير السعودي الذي احتج على الخطأ الذي ارتكبته مجلة الأعمال "فوربس" عندما وضعته في المرتبة العشرين بدلاً من المرتبة التاسعة عشرة.

 

لا بد أن الرجل يتمزق الآن وهو يفاوض مليكة المقبل محمد بن سلمان من أجل أن لا يضطرب ترتيبه كثيراً في لائحة أبطال المال والأعمال.

 

المثقف بدوره يسعى إلى شيء من ذلك. يريد أن يحصل على حياة ناعمة ومريحة تتلاءم مع دوره "الاستثنائي" في المجتمع والتاريخ. المثقف ينتج "سلعة" لا مثيل لها، إنها سلعة المعرفة ذات القيمة الاعتبارية التي تترافق مع الذكاء، والعبقرية، والإبداع التي تقتصر على القلة، في مقابل العمل اليدوي الذي يمكن أن يقوم به أي شخص. لكن من الذي سيدفع للمثقف "ثمن" إنتاجه العبقري؟

 

دعونا نأخذ اليونان "حالة" للملاحظة. كان "الشعب" اليوناني إجمالاً وبنسبة تزيد على الثلثين مكوناً من العبيد. وهناك جزء منه أحرار لا يملكون الكثير، وهناك أخيراً طبقة تتحكم في السياسة وفائض إنتاج العبيد.

 

كان بإمكان العبيد أن ينتجوا سلعاً أساسية تكفي لإعالتهم وإعالة عدد من السكان الذين لا يعملون. طبعاً كان يتم انتزاع فائض إنتاجهم بالقوة الصريحة المباشرة. استغلال صريح وشفاف.

 

وهكذا كان بإمكان الطبقة التي لا تعمل أن تلهو وتعبث وتنمي عقلها وتتمتع بأوقات فراغها. ولهذه الغايات فهي تحتاج إلى مهرجين، ومسارح، وألعاب رياضية أولمبية، وشعراء وكتاب.

 

وهذه الطبقة هي من يدفع لهؤلاء جميعاً مما يتحصل من عرق العبيد. لذلك ارتبط المثقف منذ البداية ببلاط الأغنياء والسلطان.

 

هل يمكن لأحدنا اليوم أن يتخيل أن يعمل آينشتاين أو هيغل مدرساً خصوصياً؟ يصعب علينا تخيل ذلك. لكن رجلاً أهم من هذين بكثير، لأنه الرجل الأشهر في تاريخ العلم والفلسفة اسمه أرسطو اعتاش أولاً من التعليم الخصوصي لأبناء الأغنياء بمن فيهم الاسكندر ابن الملك فيليب.

 

وبعد ذلك تفرغ للتأليف تحت رعاية مالية من الملك شخصياً، وليس سراً أن الاسكندر كان معجباً بإنتاج أستاذه حد الهوس بنشر معارفه في أوساط الشرقيين الجهلة.

 

كان كل شيء واضحاً وشفافاً ولا يحتمل الالتباس في التفسير: لقد عمل أفلاطون وأرسطو، والغزالي وابن رشد، وتوما وصولاً إلى ديكارت في بلاط ملك ما.

 

بعد ولادة العصور الحديثة، أصبح المثقف يقوم بأدوار غريبة عنه: مفكرو الثورة الفرنسية دشنوا أسطورة فحواها أن المثقف يصنع الثورة والتاريخ.

 

بدا أنه يقف في وجه السلطان والطبقة المسيطرة وأنه بطل لا يهاب شيئاً، يخلق الوعي المعارض من عدم. لكن ذلك مثلما عرفنا بعد ذلك بقليل لم يكن صحيحاً تماماً.

 

كان هناك طبقة ثورية يخدمها إنتاج هؤلاء العلماء والمثقفين الذي يعتاشون من "ابتياع" أبناء هذه الطبقة لمنتجاتهم.

 

ثم ظهرت الطباعة والنسخ على نطاق واسع لتقدم الفرصة للمثقف لتقديم خدماته مباشرة لجمهور واسع، فبدا وكأنه قد تحرر من هيمنة سلطة الطبقة الغنية. لكن قرنين من الرأسمالية برهنا في النهاية أن "مجد" المثقف يصعب أن يتحقق على وجه العموم بدون أن تقوم بتبنيه جهات مهيمنة في قطاع الأعمال.

 

الوضع أصبح بالطبع أقل فجاجة، لكن المثقف ظل مبدئياً مرتبطاً بهذه الطبقة. عليه أن ينتج ما يرضي أغراضها وإلا ذوى حد الانقراض. تستطيع المؤسسة الرأسمالية العملاقة أن تتحكم في مصيرنا على نحو يشبه "اليانصيب".

 

يمكن مثلاً أن تنقل شاباً فقيراً من وحل المخيم في غزة إلى سدة المجد والغنى والشهرة. من هو الأشهر في هذه اللحظة، محمد عساف أم ماجدة الرومي وفيروز، وإن شئتم ابن رشد وبيتهوفن؟ كم فرد في الوطن العربي يعرف اسم عبد الوهاب البياتي الذي كتب فيه وفي شعره آلاف الدراسات في اسبانيا وأوروبا وبقية العالم؟

 

لكي يستطيع المثقف والعالم والأستاذ الجامعي أن "يقلع" يجب أن تتبناه جهة مهمة متنفذه ومالكة لوسائل الترويج الجمعي. إذا تمكنت من الحصول على وظيفة في هارفارد تصبح مهماً ومشهوراً على الفور. ولكن إيمانويل والرشتين لن يحصل على هذه الوظيفة.

 

إنما شخص ينتمي إلى الواقعية السياسية أو الليبرالية أو ما بعد الحداثة. وهكذا يغدو لزاماً على المؤلف والأستاذ الجامعي أن يلقي عن جسده ملابس الماركسية الرثة ويلبس بزة من الأنواع الثلاثة المشار إليها آنفاً. طبعاً يمكن لأحد المثقفين أن يندس خلسة إلى داخل مؤسسة مهيمنة لكنه يكتشف بعد حين ويتم طرده شر طردة.

 

يحب المثقف أن يتظاهر بأنه يسعى وراء العلم، والحق، والجمال، والخير. وأنه لا يهتم بالمنافع المالية والمجد والشهرة إلا قليلا، لكنه يصطدم بلحظات يجد فيها أن عليه أن يقدم تنازلات لكي لا يتم إقصاؤه.

 

هنا تتم عملية "سوء نية" نصف واعية يحاول فيها المثقف قصداً أو دون وعي كامل أن يلائم مواقفه مع ما هو مقبول بحيث يضمن موضع قدم في "بلاط" من يهيمن على عجلة الإنتاج الاجتماعي.

 

من هنا مثلاً يمكن للمرء أن يمارس التنوير والنقد بدون أن يكون هناك مشروع للتغيير، أو حتى مع الإيحاء للجمهور أن ما هو قائم هو أفضل الأكوان الممكنة إذا شئنا استعارة جملة "ليبنتز" الشهيرة.

 

وهكذا تجد فيه المؤسسة المهيمنة فائدة كبيرة على الرغم من نقده العميق المبدع للواقع. هذا مثلاً ينطبق على مفكرين من قبيل دولوز، وفوكو، ودريدا.

 

هنالك أساتذة فصلوا من الجامعات أو قتلوا في أيام حرب المكارثية على الشيوعية في خمسينيات القرن العشرين الأمريكية، بينما يجد أنصار دريدا والتفكيك الحضن الدافئ في أشهر قلاع العلم الأمريكية من قبيل هارفارد وستانفورد وكولومبيا.

 

المثقف المشتبك بلا هوادة سيعيش فقيراً ومشرداً مثلما البياتي ومظفر النواب وغيرهما خصوصاً في بلادنا التي لا يقرأ فيها الكثير من الناس، ولا يمكن للمثقف فيها أن يعيش بدون الاعتماد على ما يتساقط من فتات على موائد أبناء الطبقة المهيمنة.

 

أرأيتم على الرغم من بعض التعمية إلا أن حال المثقف ما يزال دون تغيير كبير: إنه في حاجة إلى خدمة الطبقة المسيطرة، وهذا لا ينفي أن الاختراقات ممكنة، وأن وجود شروط اجتماعية تاريخية للتغيير سوف تشد المثقفين إلى جهتها وتحشدهم بسرعة في معسكر الثورة لكي يتصالحوا مع المبادئ والقيم المعرفية والأخلاقية التي تنسجم مع "طبيعة" الوظيفة التي تزعم البحث عن الحق، والخير، والجمال.

 

لذلك لا أمل للمثقف في عالم يخلو من تمزق وعيه إلا بتقويض عالم الهيمنة الطبقية من أساسه، وبناء مجتمع العدالة الذي ينزع من يد القلة هيمنتها القائمة على احتكار الثروة والقوة وصناعة القرار بالنيابة عن الآخرين.