تبدو السياسة الأمريكية في عهد دونالد ترامب مرتبكة في الشرق الأوسط وغير قادرة على فرض رؤيتها في المنطقة رغم الكوارث التي خلقتها لدول وشعوب المنطقة. وما ظهر من هذه السياسة حتى الآن هو إرضاء حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة حتى لو ألحقت هذه السياسة الضرر بمكانة الولايات المتحدة كدولة عظمى تفرض عليها هذه المكانة احترام القانون الدولي والحفاظ على السلم والأمن الدوليين وحقوق الإنسان والديمقراطية، وما يبدو من سياسة ترامب بشأن قضية فلسطين وهي قضية مركزية في الشرق الأوسط -شاء ترامب أم لم يشأ- أنّه شطب القضية الفلسطينية وحل الدولتين، وأدار ظهره للقانون الدولي في قضية القدس وقضايا الحل النهائي فعبّأ الشعب الفلسطيني وقيادته والشعوب العربية والإسلامية والمحبة للعدل والسلام ضد إسرائيل والولايات المتحدة، خلافًا لتوجهات حكومات المنطقة التي سلمت أمرها لترامب ومستشاريه الصهاينة والإنجيليين
وباتت الحكومات المتورطة في صفقة القرن مكشوفة ومحرجة بعد أن تبين لها أنَّ القضية الفلسطينية هي الضحية المجانية التي يجب أن تقدم على مائدة الصفقة.
ولم تراعِ إدارة ترامب الحرج الذي أوقعت فيه حلفاء الصفقة عندما قرر ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. وتلا ذلك القرار خفض المساعدات الأمريكية المقدمة للأونروا والمطالبة بإلغاء الوكالة الدولية كخطوة على طريق تصفية قضية اللاجئين وحق العودة. وخطت الإدارة الأمريكية الخطوة الثالثة بالتباحث مع حكومة نتنياهو حول تشريع المستوطنات، بل والسكوت على محاولة إسرائيل إقرار قانون ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 (الضفة الغربية) لإسرائيل، وبذلك تنهي قضية فلسطين وإمكانية إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة، وفق حل الدولتين، وهذا ما ترغب فيه إسرائيل وتتبناه إدارة ترامب، وتخضع السياسة الخارجية الأمريكية لخدمة التوجه الإسرائيلي، ولكن الرفض الفلسطيني القوي وغير المسبوق لسياسة ترامب والتحرك النشط للقيادة الفلسطينية على الساحة الدولية والأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها يربك إدارة ترامب، ويجعل من جولات وزير الخارجية تيلرسون عديمة الجدوى في المنطقة؛ لأنّ الموقف الفلسطيني والمطلب الفلسطيني بات واضحًا ولا مجال للتنازلات عن تمسك الجانب الفلسطيني بإقامة دولة فلسطين في حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب إسرائيل، ولا يغلق الباب أمام التفاوض حول إمكانية تبادل أراضٍ بالكم والكيف بين الدولتين وترتيبات أمنية حول قضية اللاجئين، وفق القرارات الدولية والمبادرة العربية.
الطرق الإسرائيلية تحدثت مطولاً حول حلّ الدولتين، ولكنه في الوقت نفسه استمرت في سياسة الاستيطان وتسمين المستوطنات المقامة ومصادرة الأرض، وأخيرًا وجد في إدارة ترامب ما يدفعه إلى التنكر بحل الدولتين، وفرض القانون الإسرائيلي على المستوطنات كمقدمة لضم الضفة الغربية لإسرائيل منهيًا عملية إقامة دولة فلسطين حتى في جزء من الضفة الغربية.
لقد دفعت إدارة ترامب القيادة الفلسطينية إلى مقاطعة شاملة لمسؤولين إسرائيليين على مختلف المستويات، وبالتالي لم تعد أمريكا راعيًا وحيدًا للمفاوضات القلسطينية الإسرائيلية، وتسعى القيادة إلى وساطة دولية متعددة الأطراف من خلال مؤتمر دولي ووفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ولا يخفى على القيادة الفلسطينية التغيرات التي تعصف في المنطقة على المستوى الإقليمي والدولي والإسرائيلي وتأثير هذه المتغيرات على المستوى الإسرائيلي على المواقف العربية والدولية والإسرائيلية من قضية فلسطين والإسلام في المنطقة.
على المستوى الإسرائيلي يغرق بنيامين نتنياهو في محيط من الفساد لا يجعله مؤهلاً لقيادة إسرائيل لمرحلة قادمة، رغم أنه لا يزال يتمتع بشعبية في أوساط اليمين الإسرائيلي تغض الطرف عن الملاحقة القانونية له في قضايا فساد عديدة.
ويخشى مراقبون أن تدفع الملاحقات القانونية نتنياهو إلى حماقة الهروب إلى الأمام بشن حرب على قطاع غزة، أو على لبنان أو سوريا، وربما إيران، لكن إسقاط طائرة اف 16 الإسرائيلية بمضادات أرضية سورية يربك الحسابات العسكرية الإسرائيلية قبل السياسية، يكبل يد نتنياهو فلا تقدم على ارتكاب حماقة حرب جديدة، سواء في الشمال أو في الجنوب، ولا يمكن أن يمر المحللون مرور الكرام على تصريحات السيد حسن نصرالله حول قدرته على ضرب أي مكان في إسرائيل وتدمير منصات استخراج الغاز والنفط من البحر المتوسط واقتحام الجليل.
لكن نتنياهو لا يكف عن التحريض على إيران الجزء الثاني من صفقة القرن، لكن الملاحظ أنَّ نتنياهو لن يقدم على مغامرة مع إيران، سواء في سوريا أو لبنان أو إيران، وتبحث عن شركاء الصفقة المشؤومة؛ ليشكلوا غطاء لعدوان واستكمال مخططاته في جعل جنوب سوريا على عمق 40 كم منطقة عازلة خالية من أيّ قوات سورية، ونسيان الجولان من أراضي سوريا محتلة، وإفراغ سيناء في الجنوب، وربما دفع الفلسطينيين من غزة إلى سيناء في حرب قادمة، وربط المعازل الفلسطينية بالضفة بالأردن إداريًّا.
إنّ الحكومة الإسرائيلية رغم أزماتها وتكبل يديها عسكريًّا لم تكف عن الضغط على إدارة ترامب لخوض حرب بالوكالة في سوريا وإيران، ولكن الإدارة الأمريكية تدرك أن حربًا كهذه ستكون مكلفة لأمريكا، ولن تقدم على ذلك.
وفي ضوء هذه المعادلة يجب على إدارة ترامب البحث عن معادلة جديدة في المنطقة لا تكون صفقة القرن من عناصرها. وعلى الدول العربية المنخرطة في الصفقة أن تتدارك مواقفها، وتبحث عن حلول لمشاكلها وأزماتها بعيدًا عن الارتهان لإسرائيل وأمريكا والسير في ركابهما على حساب القضية الفلسطينية التي لا تزال القضية الأولى للشعوب العربية والإسلامية والمحبة للسلام.
ولم يكن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل كله شرًا، بل يبدو فيه خير أن اتفقت الشعوب العربية والإسلامية والمحبون للعدل والسلام على قضية فلسطين وعدالتها وقدسية القدس وافتراء الإدارة الأمريكية وصهيونية ترامب ومستشاريه.