هكذا بلا سبب، في همّة عالية، ينشبن أعواد قاماتهن في لحم المسافة بين أرض “العليّة” وسقف الدالية، بقدود تتثنى وهن يتقافزن نحو العناقيد، ليعلو صياحهن على الملأ، هكذا …حتى تفقأ الواحدة منهن بضع حبّات، يغمسنها بماء الرياحين، لكسر حدة الوجد في تلك الحموضة، قبل أن تمسح بها ظاهر الوجه والعنق، كل هذا وهنّ لا يعرفن سرّ الدالية حتى تزف الواحدة منهنّ إلى مخدع العمر، فتخرج من ليلتها بسرّها العظيم، لعشرين سنة – بعد رحيل بهيّة – وهي تطرح حصرماً حامضاً والعذارى لا يعرفنّ السّر، إلا بعد طلوع الفجر في الليلة الأولى… ثم لا يبُحْنَ به لأحد.
“بهلول” بثوبه المهتريء، يفوقنا سناً وعقلا، زجّال يجترح بصوته الحزين مواويل الحكايات القديمة، هو وقصبة الناي كانا لا يفترقان، حتى رمته الليالي برحيل “بهيّه”.
كل اللواتي حضرن، شهدن على ليلة لم تكتمل، تواصل معها النحيب لناي زجّال، ألقى بتلك القصبة بعيدا ليلحق بهودج عرس لمحبوبته، تناقلن أيضا بأن عزفه الحزين، كان يفتت القلب وبأن احدا لم يعثر على ذلك الناي حتى وقتنا هذا، فيما ظل يعزف حتى طلع الصباح.
لكننا لم نعرف هل، تسيل دموعه الآن بفعل أدخنة الحطب تحت أرغفة الحنطة، أم أنه أستعاد خسارته الأولى في تلك العيون وحسب؟
عاد ينخر مسالك القرية الضيقة ويركل علب الصفيح المهملة غير مبال بقيلولة الناس، ويصخب بمذياعه القديم، والذي استبدله بتلك القصبة لناي زجّال لم يطلع عليه الصباح، لنرتج على وقع أغنية قديمة :
” بهية، وعيون بهية… كل الحكاية عيون بهية …”
في ليلة الحنّاء، رشقه الناس بالعشق وقلة الحيلة، فخط على سبورة الصف، اسم “بهيه”..! وراح يولول في ساحة الدرس: سترحل برفقة شخص لا نعرفه، غريب عنّا، يكبرها بعقدين ..!
– ما شأنك؟ لا زلتَ صغيراً.. لمْ تزل عالقاً في صفوف الثانوية بعد.
بعد هذه السنين وعلى وهج الجمر يغلي الشاي وتنداح الذاكرة، يسعل وهو يضحك بمرارة بيننا، كيف لي أن أستعيدها؟ كنتُ أملأ جيوب مريولها المدرسي بعشق نطف القلب، أطارد بائع الحلوى متوسلا إليه أن يقف وهو يسابق الأزقة على بغلته، ويصيح ببروده المألوف: "العنبر يا أولاد"، لأغمرها بالسكاكر، وسكّر البنات، ما أكرم الله حين افتداها بعنب الأرض!
رأيْنهُ كل الصبايا وهو يلصق صدغه إلى جدار العليّة، وينوح كأرملة، غنى لهنّ مواويل الفجيعة، ولها، حتى غص بالصباح.
تناقلنا جيلا بعد آخر، عن جذور نبتت من بذور الحنّاء في تلك الليلة، وشبّت على ساعد الخشب، وكلما غنى لغيابها موالا تسامت، حتى سكنت رأس العليّة بعد أن تسلقتها، بتنا نراها تكعيبة تظلل المكان، قالوا عنها “دالية الوقف” وأن احداً من أهل “بهيّه” لن يمس ثمارها، تنوء بأقراط تلمع من بعيد، في كل موسم… أقراط محرّمة، كبهية، فقط يطالعها من بعيد، يزفر أو يعود لركل الصفيح، لسنوات خلت وهي تطرح عناقيد حامضية تطرّز أثواب العرائس المشغولة بلهفة الإنتظار، وفي ليالي الحنّاء يلتقطن ثمارها، ليفركن حصرم اليدين على بياض الثلج، لكن…
من كانت لديها القدرة على إصطياد حباته في ليلة كهذه، كلهن يخشين العريشة وذكرى “بهيه”، بينما هو يمرّغ صدغيه في كل موسم ويلهج بالفجيعة بعد كل زفاف، حتى رموه بهذه العلّة وبأنه السبب، كيف لدالية ان تطرح ثماراً حلوة وهو يسقيها بماء الفاجعة في كل موّال…!؟
يتضاحكن أو يتباكين هكذا بلا سبب واضح، حين تزف عذارى القرية من تحت دالية الوقف في بيت “بهيّه” إلى مخدع العمر، حتى أجمع البعض بما فيهم أهلها، بأن ” بهلول” ليس مصابا في عقله وإنما في حشاشة قلبه… وأن صفير الناي الذي يعزف بألحان موجعة في كل ليلة – ولم يعثر عليه أحد – هو السبب، وبأن ما يحرث جوف تلك القصبة ليس سوى صدر “بهية” … ليبثهم مرارة غربتها.
يفتر ثغره الآن عن ابتسامة لها طعم السّكر ومرارة الحصرم وهو يخرج من سنوات عمره الأربعين لينسل من بيننا كطفل، ويأبى أن يدخل الزقاق، ودعنا على وهج الجمر والسعال قبل أن يذوب في عتمة الطريق، تسلل نحو سروة معمرة، لحقنا به نختلس النظر، حتى توسد قمّتها وراح يرنو نحو”عليّه” البيت وتكعيبة الظل لدالية الوقف، رأيناه للمرة الأولى يلقي بمذياعه جانبا لينتزع من جيب ثوبه المرقع ناياً قديما، اصغينا إليه في خشوع وهو يحرث جوف تلك القصبة بلحن يفتت القلب، تواصل حتى الصباح. وكان حين يتعب، يسكنه الصمت، ليشرع بعدها بنثر موّال قديم على أعين السهارى وعذارى الليلة الأخيرة : ” بهية، وعيون بهية..
كل الحكاية عيون بهية”.