يقولون في بلادي بأن الحكايات لا يُسمع صداها إلا إذا مات بطلها. والأبطال في غزة هم الأقرب لسرد تلك الحكايات "المؤلمة" والتي لا تبتعد في مضمونها عن رحلة البحث عن حبيب ضائع خلف الجدران، ومن أقفل وصيته الأخيرة قبل أن يرحل على عجل. هو رحل دون أن يستمع لحديث زهر اللوز في شتاء فبراير، حيث لا مفر من " المنفى".
"زوجك توفي ...ولم يستمع لزهر اللوز بعد". هكذا بدأت الحكاية، ومن خطها هذه المرة هي الكاتبة دنيا الأمل إسماعيل وزوجها الراحل بسام الأقرع، حيث تلقت نبأ وفاته أثناء تواجدها في مصر لمرافقة ابنتيها اللتين ستدرسان في الخارج، فيما كان الأقرع منشغلاَ في كتابة وصية قد لا يعلم بها سوى قلبه المتعب : "حب من وراء جدران".
تلك الحكاية مرهونة بالمسافات، والمسافات في قطاع غزة لم تعد تقاس كما قبل 11 عاماَ، فقد ضاق بهم الخناق، حتى أن الوقت لا يعرف معالمه إلا عند انقطاع التيار الكهربائي. ولحسن الحظ شيع جثمان الأقرع عبر "فيس بوك" وقبل انقطاع التيار ...وهنا زوجة تشاهد مراسم دفن زوجها ومن خلال البث المباشر.
حاولت دنيا الأمل أن تعود وبعد عدة شهور إلى تلك المدينة "المحاصرة" غزة، حيث الذكريات وقصص الفراق، ولكن إغلاق معبر رفح وعلى الدوام قد منعها من حقها في العودة، والعودة هنا إلى الديار في غزة حيث العائلة والزوج الذي ترجل عن فرسه فجأة.
كيف لها أن توصد عيناها أمام جنازة زوجها التي بثت عبر "فيس بوك"؟ وكيف لتلك الكاتبة أن تترجم مشاعرها حين رصد حكاية رحيل فارسها الشجاع؟
"يصور لي أحدكم جنازة زوجي ...ولتصلوا عليه". هكذا كتبت بعد أن أوصدت أمامها كل السبل للقاء الأقرع، حيث لم تستجب لها الجهات الرسمية المصرية لتوديع زوجها والمرور بقرب نعشه المغطى بالنفسج.
المعابر والحدود، قد منعت دنيا الأمل كما غيرها من الغزيين من لقاء زوجها الذي كان يحدثها عن حقوق هي رهن اعتقال الوقت والمكان، حقوق إنسانية هي مغيبة في عالم اعتاد على رسم ملامح الأقرباء في المنفى وعلى مذكرات قديمة قد مزقت بفعل الاحتلال.
لم يحب بسام زهر اللوز، فهو الكثيف والضعيف والذي لا يوصف إلا ببلاغة تامة، والحب من خلف الجدران كاد يتسم ببساطة اللغة، واكتفى بارسال باقة من الورد الأحمر لتلك الأنثى ..لدنيا الأمل.
قالت وهي تنظر لذاك الورد الأحمر : هذا آخر ورد من بسام أرسله لي قبل وفاته بدقائق بعد أن اتصل بأبنتي أوغا وطلب منها شراءه لي، بمناسبة عيد الحب".
أمسكت بذاك الورد، وأقفلت الهاتف ... وجاء نبأ وفاة زوجها بسام الأقرع.
هو لاجئ في مخيم جباليا، مثقل بهموم تلك المدينة التي لا تنقطع عن تكرار الحكايات والتفاصيل اليومية، وبها أخبار الحصار والمعابر وتوقعات بحلول حرب جديدة. وبين هذا وذاك تتسلق الأنفس الغزية بحثاَ عن منفذ يعيد الحياة لدنيا الأمل وغيرها ...
"الوداع محرم"، قد لا ينجو سكان غزة من ذاك الوداع كما دنيا الأمل، فقد حرمت من وداع زوجها بعد محاولات للقاءه وقد باءت بالفشل.
الوداع قد أيقظ حكاية من بين الحكايات المغلقة داخل ذاك المخيم الموشح بالسواد، حيث ترجل البعض لاستراق نظرة لبيت العزاء دون أن يعرفوا ذاك الشخص الغريب أو مأثره، وبصمت غريب كان الوداع. ولم يعهد المخيم أن يودع سكانه وبصمت مطبق دون بكاء يسمع صداه... وكأن أمل تقول لهن : "الوداع لن يفقدني أمل الحياة.."