بعد مرور أكثر من شهرين على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وفي ظل عدم التزام الإدارة الأمريكية الحالية بأي شيء سوى الرؤية الإسرائيلية اليمينية العنصرية لطبيعة الصراع ومتطلبات المرحلة، يزداد الموقف السياسي تعقيداً وخطورة بالنسبة للطرف الفلسطيني.
عربياً، من الواضح أن المنظومة العربية جاهزة للتعاطي مع الإدارة الأمريكية ولا ترى مفراً من ذلك نظراً لمصالحها العالقة مع واشنطن وإيمانها أن بقاءها مرهون برضا البيت الأبيض وأن مصالحها في المواجهة مع إيران يتطلب الرضا الأمريكي والذي يتطلب من جهته التعاون مع إسرائيل والتعامل معها باعتبارها شريكاً في المواجهة حتى لو تطلب الأمر التسليم الضمني بأجندة إسرائيل الاستعمارية وإنكارها لوجود الشعب الفلسطيني وحقوقه باعتباره تسليماً بالأمر الواقع.
دولياً، الاتحاد الأوروبي وغيره من اللاعبين يصدرون كل البيانات المطلوبة ويتبنون المواقف المنسجمة مع التزامهم السياسي بالقانون الدولي. لكن، وبترجمة حرفية للمثل الشعبي القائل "القوي عايب"، يطالب هؤلاء الطرف الفلسطيني بانتظار صفعة ترامب والعودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل؛ ذات الطاولة التي نسفها ترامب وسحق ما تبقى منها نتنياهو الذي لم يعد يتردد في المجاهرة برفضه لحل الدولتين وإنهاء الاحتلال الذي لا يعترف بوجوده أصلاً.
هذه الأطراف الوازنة دولياً تمكنت من لعب دور محوري في التوصل لاتفاق مع إيران نزع فتيل الحرب الذي يحاول ترامب ونتنياهو الآن إعادة إشعاله ومعهم كثير من الأطراف العربية. لكن الأطراف ذاتها لا تريد حتى الآن أن تتخذ خطوة إيجابية مثل الاعتراف بفلسطين للتأكيد على التزامها بحل الدولتين وبالقانون الدولي، ناهيك عن خطوات أخرى واجبة قانونياً مثل محاسبة إسرائيل على جرائمها أو مقاطعة منظومتها الاستعمارية. لا أحد يريد مواجهة مع ترامب.
إذاً، العالم جبان والأسرة الدولية متخاذلة. لكن ماذا نحن فاعلون؟ هل قدمنا طرحاً واضحاً ومقنعاً ينسجم مع ما نقوم به من أفعال؟
بنظرة سريعة، يتضح أن الواقع الفلسطيني غير منسجم مع نفسه وأن المنظومة السياسية عاجزة حتى عن التواصل مع الرأي العام الفلسطيني وإقناعه بما تقوم به من خطوات يبدو الكثير منها متناقضاً مع ما صادق عليه المجلس المركزي قبل شهر وما أكدت عليه اللجنة التنفيذية مؤخراً من سياسات وقرارات.
وزراء يعقدون اجتماعات مع نظرائهم الإسرائيليين ويعطون انطباعاً من خلال هذه الاجتماعات رسالة تتناقض تماماً مع ما اتخذ من قرارات على المستوى الوطني، خاصة فيما يتعلق بما اصطلح عليه "فك الارتباط" مع إسرائيل. رئيس الوزراء يلتقي الحاكم العسكري لجيش الاحتلال في الضفة الغربية في مكتبه برام الله وكأن الجنرال الإسرائيلي ضيف من دولة أجنبية ودونما إدراك للرسالة السياسية الصارخة التي يعكسها مثل هذا اللقاء. وإن كانت الحكومة تدرك التناقض الذي تحدثه هكذا تصرفات وتتعمد عدم التواصل مع الرأي العام الفلسطيني لأنها ببساطة لا تكترث برأيه فتلك مصيبة. وإن كانت لا تدرك كل هذا وتتصرف "عالبركة" فالمصيبة أكبر وأعمق!
حكومة تنشر خطة للتنمية تحت عنوان "المواطن أولاً" بينما المواطن ومعاناته لا يجدون مساحة للحوار أو النقاش معها، في ظل فضاء للحريات والحقوق الأساسية يتقلص بتسارع. حكومة تعد الموازنات والخطط ولا تتواصل مع الناس، مكتفية بالشعارات بينما لا تسمن تلك الشعارات الشباب الذي يشكل غالبية المجتمع والغالبية الساحقة ممن لا يجدون أفقاً للمستقبل ولا حتى عنقاً للزجاجة التي هم حبيسو قاعها. ولا تسمن الشعارات من أُجبر على التقاعد قسراً دون أن تولي الحكومة بالاً لانهيار إمكانياته المادية بعد أن يذهب راتب التقاعد لسداد قروض البنوك التي سهلت الحكومة عليهم أخذها. آلاف من المواطنين كانوا يمثلون قوة شرائية واقتصادية كبيرة تركوا عاشراً أو أكثر في أجندة تزدحم بالمتناقضات وتنشغل بالتعظيم من إنجاز رقمي هو في الحقيقة ليس سوى ندبة في عالم التأثير الرقمي المهول.
داخلياً أيضاً، قطاع غزة يحتضر بينما لا يسمع الشعب الفلسطيني من السياسيين سوى الردح والردح المتبادل ويترك اثنين مليون فلسطيني ليواجهوا قهرهم ومصيرهم وعزلتهم وحصارهم وحدهم؛ فحكام الأمر الواقع في غزة متأثرون بأزمة الكهرباء التي دمرت كل مناحي حياتهم ولا هم مكترثون بخنق الأمل في روح شبابهم الذين يقفون على ناصية الحياة في العالم الافتراضي ويشعرون بالقهر الذي لا شفاء منظور منه – بأن حياتهم وأحلامهم مخطوفة وليس هناك من ضوء في نهاية النفق.
وفي هذه الأجواء شديدة البؤس، يقرأ الفلسطيني في قطاع غزة أداء الحكومة الشرعية والفصائل جميعها برئاسة حركة فتح على أنه عدم اهتمام يرقى إلى الإهمال المتعمد واللا-مسؤول. مليونا فلسطيني محكوم عليهم بالقهر والحصار بينما تتقاتل قبائلهم السياسية على التمكين تحت الاحتلال وتتفاوض بالسر على تفاصيل هذه الكلمة السحرية دون أن تبدي اهتماماً حتى بمصارحة المتأثرين بشكل مباشر من انقسامهم بحقيقة النقاش وتفاصيله ومتطلبات التمكين هذا.
العالم جبان بلا شك والعلاقات الدولية مبنية على المصالح، نعم. وحيث أن فرص إنهاء الصراع تكاد تكون معدومة في ظل الظروف الدولية والإقليمية الرديئة، لا يتبقى للفلسطينيين سوى الانسجام مع أنفسهم وطرح ما هو مقنع وطنياً من برنامج يضمن الصمود الاجتماعي والسياسي ويحقق الوحدة التي لا مناص منها باعتبار ما سبق عوامل أساسية لتمتين الموقف السياسي في مواجهة التحديات والمخاطر المتتالية.
العالم لن يقتنع بجديتنا وقوة موقفنا إذا لم نكن مقنعين قولاً وفعلاً. وإذا تصور البعض منا أن العالم يبني موقفه على ما نسوق له من شعارات عن أولوياتنا وبرامجنا ومطالبنا، فهم واهمون. فلسطين تحت مجهر دولي كبير وواقعنا بكل تفاصيله لا يخفى على أحد. السؤال إذا يجب أن يكون: العالم جبان، نعم، لكن هل اتخذنا ما يجب من خطوات لنكون أقوياء في مواجهة خذلانه؟