في الوقتِ الَّذي أتاحَت فيه تطبيقات التكنولوجيا – وخصوصاً تكنولوجيا الاتِّصالات والتَّواصل - مناخاً عارِماً بالفائدة من حيث سرعة وسهولة عرض المعلومات والحصول عليها ومن ثمَّ فعاليَّة تأثيرها؛ فإنَّ ذلك قد أوجَدَ في ذات الوقت كثيراً من المشاكل والمُعضلات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة، وقد رافق ذلك أيضاً تأثيرات سلبيَّة مقصودة على كثيرٍ من جوانب واتِّجاهات الوعي والسلوك ومحاولة توليد الدَّوافع لدى الأفراد والجماعات لخدمَةِ خِطَطٍ منهجيَّةٍ وأهدافٍ أُعِدَّتْ بدقَّة. وقد كانت الحقيقة ضحيَّة من ضحايا كثافة التَّفاعل مع هذه الوسائل على نحوٍ غيرِ واعٍ؛ في سياقِ كونها – أيْ الحقيقة - ضحيَّةً من ضحايا مراحل التَّاريخ المختلفة وإنْ بوسائل أخرى.
لكنَّنا نخضع اليوم – وكأكثَرِ من أيِّ وقتٍ مضى ربَّما - للتأثيرات السَّلبيَّة للدِعاية المتِّصلَةِ بخدمة الأهداف السِّياسيَّة والاقتصاديَّة وخدمة أغراض المُغالاة في الاستهلاك على سبيل المثال، وتعميق مظاهر المُغالاة التكنولوجيَّة في مختلف جوانب الحياة وفي كثيرٍ من سبل تعزيز أنماط اقتصاد الخدمات الذي لا يُنتج.
على صعيد التعامل مع الدِّعاية المُضَلِّلة ووسائِلِها وما تستخدمه من صور وميديا مُكثَّفة يجْدُرُ بنا الاهتمام بما ترشدنا إليه بصيرَتُنا الدَّاخليَّة القائمة على المعرفة واسْتِلْهامِ التَّجربة وأخذِ العبرة، كإحدى وسائل ومعايير التَّمييز بين الخطأ والصَّواب وبين الحقيقة والزَّيف والخداع – تلك البصيرة الَّتي هي هِبَةُ الله للإنسان وإحدى أهم خصائص الكائن البشري بامتياز – وهذه البصيرة يتم تعزيزها على قاعدة توظيف التجربة بحكمةٍ ووعيٍ واتِّزانٍ وهو ما يجعل لدينا ما يمكننا تَسْمِيَتُه بنمط الإدراك والتَّفكير الحَدَسِيِّ على أساس الاهتمام بضرورة المعرفة الحقيقيَّة بالظَّواهر من حولنا سواءً كانت مادِّية أو اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ثقافيَّة أو اقتصاديَّة.
ماهيَّةُ الإدراك والتفكير الحَدَسِي:
التفكيرُ الحَدَسِيُّ هو إحدى تجلِّيات امتلاك البصيرة الدَّاخليَّة، وكما جاءَ في آيِ الذِّكر الحكيم: ( فإنَّها لا تَعْمَى الأبصارُ ولكنْ تَعْمَى القُلوبُ الَّتي في الصُّدور ) وذلك في إشارَةٍ إلى الاستسلام لوسائل خداع الحواس والمؤثِّرات الانفعاليَّة، أو تجاهل الدَّلائِل الحسيَّة على الحقائق عندما تكونُ واضحة ومَؤَكَّدة، وإقصاء دور وأهميَّة القرائن العقليَّة والمعرفيَّة وإنكار الحقائق لحسابِ الرَّغبات والميول والأهواء وخدمة المصالح الشخصيَّة أو الفئويَّة، ولحساب التَّقليد الأعمى، أو لصالح الانصياع لرغبات وغايات مصادر القوَّة والنُّفوذ والسُّلطة بمظاهرها المختلفة في المجتمعات. وبالتَّالي فإنَّ غياب البصيرة وتجاهل تنمية التفكير الحَدَسي يؤدِّيان إلى التَّشويش على رؤية الحقائق كما هي؛ وذلك عندما يكون الإدراك خاضعاً لقوَّة المؤثِّرات الحسيَّة المُضَلِّلة فحسب.
يمكننا اشتقاقُ التَّعريف التَّالي لِمَفْهومِ الإدراك والتفكير الحدسي، وهو:
المعرفة والمهارة الذِّهنيَّة الواعية، المؤَسَّسَةِ على محاولة الاستفادةِ القصوى من الخبراتِ الذِّهنيَّة والتطبيقيَّة، سواءً منها الفرديَّة أو الجماعيَّة.
واتِّصالاً بذلك المفهوم؛ فإنَّ عمليَّة التفكير الحَدَسِيّ هي نوعٌ من الاستجابة الذِّهنيَّة والعقليَّة القائمة على التَّحليل الإدراكي الواعي للمؤثِّرات الحسِّيَّةِ الخارجيَّة لدى تلقِّيها. وهي من جانبٍ آخر تأتي في سياق - الوعيِ على - والتَّحديد والتَّمييز الإدراكي غير الانفعالي وغير الخاضع لما تمليه الرَّغبات والميول العاطفيَّة في سياقات تفسير طبيعة واتِّجاهات الأحاسيس والعواطف الدَّاخليَّة لدينا المتولِّدة بفعل المؤثِّرات الخارجيَّة.
وبالتَّالي فإنَّ تعلُّم الإدراك والتفكير الحدسي يأتيان في نطاق الاهتمام بتنمية المهارات العقليَّة والمعرفيَّة الواعية على نحوٍ خاص، وذلك بالتَّعلُّم والتَّدريب على الابتعاد عن ردود الفعل العاطفيَّة والانفعاليَّة والغريزيَّة وبما تُمليه الرَّغبات في بناءِ المواقف من الظَّواهر الحياتيَّة المختلفة، ويلزم ذلك الاهتمام الدَّائم بحضور البديهة ودقِّة الملاحظة والاستنتاج الصَّحيح.
إنَّه إذاً – أيْ الإدراك الحدسي والتَّفكير بطريقة حدسيَّة - نوعٌ من الإحساسِ الدَّاخلي الواعي المُنْتَبِه على نحوٍ خاص، والَّذي من الصَّعب خداعه أو التشويش عليه. وهو بمثابةِ جهاز الإنذار الدَّاخلي المضبوط على إيقاع احتمال حدوث المخاطر قبل أنْ تقع، وذلك عندما تبدو مقدِّماتها أو الشواهد والقرائن الدَّالَّةِ على إمكانيَّةِ حصولها واضحة أمام هذا النَّمط من آلية التفكير على نحوٍ متميِّز.
وبطبيعة الحال، ليسَ معنى ذلك أنَّ الحَدَسَ لا يُخطىءُ أبداً، أو أنَّه مُطلَقُ الصِّحةِ دائماً، ولكنَّه يبقى من أفضلِ مهارات الإدراك التِّلقائي المتوازن وغير الانفعالي والقائم على المعرفة والتجربة والخبرات السَّابقة.
كيفَ ينشأ التفكيرُ الحَدَسي ؟؟:
إنَّ الذي سبَقَ له وأنْ شاهدَ اندلاعَ حريقٍ كبيرٍ لسَبَبٍ بسيطٍ تصعب ملاحظة أسبابه سيحتَفِظُ في ذاكرته في الغالب بصورةِ تلك النَّار وهي تضطرِمُ وسيربِطُ على الدَّوام بين سببها وبين الظُّروف التي ساعدت على انتشارِها، وسيحتَفِظُ بكل ذلك في ذاكِرَتِه كجزءٍ من خبراته الشَّخصيَّة. وبالتَّالي ستصْبِحُ الأسباب والظروف الَّتي تؤدِّي إلى اندلاع النَّار ولو كانت بسيطة مدعاةً للحذَرِ بالنِّسبةِ إليه ومثاراً لإحساسه بإمكانيَّة حدوث الخطر، وإنْ كانت بالنِّسبَةِ للآخرين غير ملفتة بالمقدارِ نفسه الَّذي يراهُ هو.
وبالتَّالي فإنَّ امتلاكنا لمهارة التفكير بطريقةٍ حدسيَّة يرتبطُ بقدرتنا على التَّعلُم وعلى الاحتفاظ بصور التَّجارب الماضية، سواءً تلك التي مررنا بها أو تلك الَّتي شاهدناها أو قرأنا أو سمعنا عنها أو تعلَّمناها.
الثِّقة المطلقة على غيرِ أساسٍ موضوعيٍّ سليم ودورها في التَّعميةِ على التفكير الحدَسي:
الثِّقة: هي درجة عالية من درجات التَّصديق والإيمان الَّذي لا يعتريه الشَّك – أو البعيد عن الشَّك - بشخصٍ أو بشيءٍ أو بواقعٍ أو بظاهرةٍ ما، وليس بالضَّرورة أنْ تقوم تلك الثِّقة أو ذلك الإيمان على أساسٍ موضوعيٍّ صحيح دائماً؛ فقد يأتي منح الثِّقة عن طريق الخداع وقد أحياناً، وقد يأتي على قاعدة استبداد الرَّغبة بشيءٍ ما أحياناً أخرى. وفي الغالبِ فإنَّ مقدار الموثوقيَّة تجاه المصادر الإعلاميَّة على سبيل المثال أو الظَّواهر الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة المختلفة هو من يُحدِّدُ مقدار استجابتنا وعمق تفاعلنا معها سلباً أو إيجاباً. وبالإجمال فإنَّ استغلال الثِّقة هو إحدى أهم وسائل التوظيف والاستخدام والتجنيد الفعَّال في خدمة الخطط المنهجيَّة والأهداف المقصودة. وهو إحدى أهم آليات تحييد مفعول التفكير والإدراك الحدسي القائم على أسسٍ صحيحة، والَّذي يؤشِّرُ إلى الحقيقة التي يُراد تعميتها؛ ولذا ربما قال الإغريق قديماً " إنَّ الحقيقة أهم من أفلاطون ".
لكن هذا لا يعني وبكل الأحوال أنْ يكون التركيزُ على التَّفكيرِ الحَدَسيِّ مُسَوِّغاً أو منطلقاً ونظيراً لمشاعرِ وسلوكِ الشَّك خاصَّةً في بيئة العلاقات الإنسانيَّة السَّليمة والطَّبيعيَّة. بل ينبغي أنْ يكون تفكيراً منطقياً أبعد ما يكون عن صور التفكير المَرَضيّ وعن أنماط التفكير على قاعدة الأوهام والتَّخيُّلات أو الافتراضات الخاطئة.
أهمُّ فوائد تطبيقات التفكير الحَدَسيّ:
المجالات التَّطبيقيَّة المفيدة لهذه المهارة وهذا النَّمط من التفكير كثيرة وعديدة ومتنوِّعة على الصَّعيدين الفردي والجماعي، لكنَّ أهم تلك الفوائد تتجلَّى في مجال وفي بيئة العلاقات العامَّة، كما في مضمارِ التَّعاطي والتَّفاعل مع كثيرٍ من أنماطِ الثَّقافات ومحاولة فهم مُنطلقاتِها وأُطُرِها العامَّة بشكلٍ صحيح، كما تتجلَّى في العمل السِّياسي وفي مضمار العاملين في المهمَّات والمسؤوليَّات القياديَّة والإداريَّة، كما في مجال فهم طبيعة ومنطلقات واتِّجاهات السِّياسات المحليَّة والدَّوليَّة، وبما في ذلك تقدير النَّوايا وفهم الدَّوافع ودراسة وتحليل وتقييم الأهداف والغايات المتصلة بتلك السياسات، كما في ميادين الإعلام والدِّعاية والتَّسويق للسلع والأفكار المختلفة.
إنَّ القادةَ السِّياسيين ومن منطلق مهامِّهم ومسؤوليَّاتِهم الوطنيَّة والأخلاقيَّة، وأولئك الأشخاص الرِّياديين في مجال تخطيط السِّياسات والبرامج العامَّة الخاصَّة بمجتمعاتِهم، هم أحوج ما يكونون إلى امتلاك هذه المهارة في التَّفكير، لأنَّ عدم مراعاة استخدام هذه المهارة يُوْدي بمن هم تحت مسؤوليَّاتهم، ومن ثم بالمجتمع والدُّول إلى منزلقاتٍ من الفشل والهزائم أو الارتكاسات الجماعيَّة المتكرِّرة.ِ