تتنمل الأصابع المتعرقة، شاحبة واهنة، كبقايا أقلام رصاص أكلتها مبراة، محاولة رسم هواء يدفع مركباً، بعدما راودها البحر وركبت الموج طمعا في وعد أصم، ثم نفذت إلى العمق لتجد ثغرة تحيي القبة أملا، فلم تجد سوى جثثاً لغرقى تيبست حناجرها، منذ مئات من السنين، وقد صرخت للقدس ركاما، وهي كدمعة في بحر الخذلان..
قميص يوسف شفاف، يا زليخة، ولا يطيق المكوث على الأوجه البراقة، والغصن الّذي أغوانا اخضراره الكثيف، لم يكن سوى غصن تلك النّار الأولى، نار ترتب لاندلاعٍ جديد، وهي تتمتم لهيبا، أيا وجه أبونا الشمسي، أعينك أنقى وأطهر من اللحظة الّتي شيدتَ فيها خزي العرب، ورميت بقميص الثرثرة التي شرخوا اسطوانتها تكرارا، وعريت بطونهم التي دفعوا بها عربة حياتهم المتوقّفة، قسرا بقِيادة جموح الحمير، قاصدة القفص الصّدري للجحوش بشعاراتهم الرنانة.. فلم يبق من الكرامة سوى أشجار جُرْدُ باسقات، هرمت أوراقها منتظرة ما سيأتي ولا يأتي..
حين يتكسر بيض الأمل، يصبح الواقع كسأم مُلِح، يتفرّس في مصابيح الكون المضاءة وظلمة الوعود وعتمة اليوم المنشود.. لا شيء في كلم العرب يدفئ أحلامنا البائسة، ولا به ما نوقِدُه شعلة في أرواح المكلومين، ما هو إلا عُمْر كأكوام فحم، نكدّسها في غرف القلب حسرة، وفي فناءاته التي تثاءبت فيها عناكب “عرقوب” و“إبي رغال”، حيث تتقاسم ولائم الله وسلال أنبيائها، وبعض الغربان التي عادت لتعيد مشهد الدفن، لتعلم “قابيل” اليوم دفن عروبته، قبل قرع كؤوس نبيذ الجرائم انتصارا. وبعنجهيّة القتلة، يقفون ما بين البينين، في تلك المنطقة التي أسماها “دانتي” في الكوميديا الإلهية “البروغاتوريو”، الذي يتوسط الجنة والنار؛ يطالبون بالجنة وأياديهم كوانين نار، كسعير جهنّم أفكارهم المضاءة، بأجساد عشيقاتهم داخل ظلام قلوبهم السّوداء..
حاولتم يومها أن تصيروا محيطا بلا برزخ، فما استطعتم، حاولتم أن تصبحوا بحرا تعبر منها السفن المحطمة وما كنتم، أن تمسوا بحيرة بأرض وتراب، لكنكم لم تكونوا سوى حفنة من سراب، تغوص في القاموس، ملء فواجعها مذ سبع عقود منبتة، ولا تجيد سوى القهقرى..
فجربوا يوما أن تكونوا أنتم؛ أسطرا خطها أبوكم الشهيد على جدار الذاكرة، ماءا، فقد آن لهم اليوم أن يدخلوا القدس بسلام آمنين، لم يعد تحت ظل الوجد والوجود، غير صدى أمواج الغدر العاتية، في الّليل المخيف، تتكسر على قلوب تصخرت، بعدما حنّطها الملح والبحر، وأمواج تجتر الوعر الرّهيب قاصدة طريق النّجاة، طريق تزفر فيها أوكسيجين البقاء، ثم تنفث آخر نفس وتتكئ على حائط النّسيان المائل المتهاوي.