نظر إلى ساعته للمرة الخامسة، تنهد.. و حاول الاتصال بها مرة أخرى علّها تجيب.. لكن يأتيه الرد في كل مرة .. لا يمكن الوصول..
بدأت الأفكار السيئة تنهمر على رأسه كحبات المطر.. أخذ يسير في البيت ذهاباً و إياباً.. محدثاً نفسه: ماذا أفعل؟ هل أنتظر أم أذهب للبحث عنها؟ أين أبحث عنها! المدرسة أغلقت أبوابها، و لا أعلم أرقام صديقاتها.. ماذا أفعل! قطع صوت الباب حبل أفكاره، خرج من غرفته مسرعاً، رآها و صديقتها نور التي كانت تحمل حقيبتها، ذُهل لرؤيته يدها المكسورة، ابتلع ريقه، قال بدهشة:
-ماذا حدث ليدك؟
-
بعد خروجنا من المدرسة توجهنا لشراء حلوى من محل في طريقنا للبيت، كانت هناك مجندة، قامت باستفزازنا، و تشاجرنا ثم ضربتني بطرف السلاح، فوقعت على الأرض فكُسرت فحصل ما حصل.
نظر إليها نظرة خوف لا تخلو من العتاب.. واصلت:
-لا تنظر إليّ هكذا! هي من قامت باستفزازي يا أحمد!
-حسناً حسناً .. اجلسن، وقولي لي هل أنت بخير؟ هل تؤلمك؟
-أنا بخير، لكنها تؤلمني قليلاً
قال موجهاً حديثه لابنة الجيران و صديقة وطن في المدرسة:
-نور، شكراً لك
-ولو.. نحن أخوات يا أحمد
-بالطبع، كيف حالك؟
-الحمدلله بخير، لكن إن لم أعد للبيت حالاً ستجعل أمي مني نسخة لأحد أفلام الرعب.
ضحكوا جميعاً رغم ما تراكم في قلوبهم من وجع. قامت نور مستأذنة بعد أن اطمأنت على وطن.
-انتظري سأرافقك إلى البيت.
-لا داعي؛ فالبيت بنفس الشارع كما تعلم.
-أعلم ذلك، لكن تذكري نحن في القدس! و أنت تعلمين أن الأمان في هذه الأيام معدوم، ثم إنني لا أريد أن أصبح نسخة لأفلام الرعب من والدتك.
رافق أحمد نور إلى باب بيتها ثم عاد بسرعة حتى يطمئن على شقيقته. فتح الباب و رآها ما زالت تجلس على الأريكة في الصالة، جلس بجانبها قائلاً:
-هل أنت بخير؟
ردت وطن مبتسمة: أحمد.. هذه المرة الثانية تسألني! نعم أنا بخير لا تقلق.
ساد الصمت.. كانت كلما تشعر بألم أكبر تبتسم إليه كمحاولة لإخفاء أوجاعها عنه؛ فهي تعلم بماذا يفكر، ولا تريد أن تزيد من أوجاعه، فجعلت من ابتسامتها الدواء للدوامة التي في رأسه.
أما هو فكانت الأفكار تدق رأسه كالمطارق؛ فهو شاب في التاسعة عشر من عمره، لم يستطع أن يوفر لأخته الوحيدة طريقاً آمناً من المدرسة إلى البيت! ولا يستطيع رد الأذى و الاقتحامات عن مدينته.
قطع الصمت اتصال هاتفي من والدتهما، رد أحمد:
-أهلاً أمي.
-مرحباً يا حبيبي، كيف حالكما؟
-الحمدلله بخير و أنتم؟
-الجميع بخير الحمدلله، قل لي يا ولدي هل هناك مشاكل؟
-مشاكل ماذا؟ لا يا أمي.. من أين أتيت بهذه الأفكار؟!
-لا أعلم يا ولدي، شعرت بالقلق عليكما..
-لا يا أمي لا تخافي نحن بخير، طمنيني كيف صحة خالتي الآن؟
-أحسن بفضل الله، أحمد أنت قلت الحقيقة أليس كذلك؟
-طبعاً، و لم أكذب؟ نحن بخير صدقيني.
-حسناً حسناً.. إن احتجتما لشيء اتصلو بأي وقت، و عندما تتحسن خالتك سأعود مع والدك إن شاء الله .
-حاضر يا نبع الحنان قالها ضاحكا .. سلامي للجميع.. و لن يحدث إلا كل خير بإذن الله.
-الله يرضى عليك يا حبيبي.. انتبها على بعضكما .. مع السلامة.
أغلق أحمد الهاتف متنهداً.. نظرت إليه وطن و قالت بتعجب:
-هل قال لها أحد عن كسر يدي!
-لا .. إنه قلب الأم. ثم تابع بابتسامة:
-لو أن أمك كانت على زمن عبد القادر الحسيني، لكشفت جميع المكائد و لم نقع تحت الاحتلال يوماً.
-آه،معك حق .
قالت وطن محاولة التخفيف عن أخيها..
-أعتقد أنها الفرصة المناسبة للاستغلال.. فما رأيك أن تحمل حقيبتي إلى الغرفة؟
-هل هناك أوامر أخرى؟
-مممم.. نعم، أريد أفضل طبق من الطعام، أعلم قدراتك الرائعة في الطبخ، فلا تضحك علي بحساء أو وجبة "على الماشي"، أريد وليمة فاخرة.
-حاضر.. أمري لله. فكم وطن نملك؟
أمسك حقيبتها و ساعدها على النهوض إلى غرفتها؛ لتأخذ قسطاً من الراحة، و توجّه و أفكاره إلى المطبخ ليحضّر لها الطعام.
عندما استدار بوجهه عنها.. تلاشت الابتسامة عن وجهه، و عادت الأفكار تتقاذف برأسه، ما المستقبل الذي ينتظر المدينة؟ و ماذا عن أبنائها .. ماذا عن التاريخ و العراقة؟ هل ستنقذهم من الضياع أم تتخلى كما تخلت الأمة...
علمت وطن أن أحمد عاد إلى دوامته، نادت عليه بحجة جوعها، فأسرع في تحضير الطبق و ذهب إلى غرفتها.
-تفضلي.
-ممم.. رائحته لا تقاوم! شكراً
-بالعافية.
-ألن تأكل معي؟
-صحة، شبعت من الرعب الذي أصابني من تأخرك.
-لا تحاول أن تؤنب ضميري، أنا حقاً جائعة.
- لا حبيبتي لا أحاول سد شهيتك؛ لأنني أعلم بفشلي مسبقاً..
-هاهاها.. لو سمحت إلا معدتي. أحمد اقترب عيد ميلادي الثامن عشر و عيدك التاسع عشر أيضاً!
- و من قال إنني بحاجة للتذكير؟
رمقته قائلة:
-محلاك و إنت ناسي! أنا قلت ذلك كي أذكرك بالوعد.
-أي وعد!
-أحمد!
-وطن.. هلا تنظرين إلى نفسك قليلاً! كيف سنقوم بجولة مقدسية و أنت بهذه الحالة!
- على فكرة لأنني متعبة يجب أن نقوم بهذه الجولة، بالله عليك يا أحمد!
-عبثاً أحاول.. حاضر، لكن إن شعرت بالتعب سنعود حالاً إلى البيت.
-هاهاها! من كل عقلك! هل تجتمع كلمة تعب في ساحات المسجد الأقصى يا أحمد! خاف الله يخوي!
_حسناً حسناً..اقتنعت ..آخ يا وطن لن يقدر عليك سوى الله.
ابتسمت ابتسامة النصر، ثم قالت: على سيرة التعب، سآخذ قسطاً من الراحة و أنام.
-سأكون من الشاكرين. تقصدين أن تعطيني قسطاً من الراحة من حضرتك
-أحمد!
-حسناً حسناً نوماً هنيئاً يا وطني!
تركها ذاهباً لاستكمال المعلومات التي أحب و أصدقائه جمعها عن القدس كمحاولة لتصحيح مصطلحات و أفكار خاطئة عن المدينة رغم عدم حبه للقراءة، و ذلك لإيمانهم بأهمية الثورة المعرفية التي تشكل بنظرهم الخطوة الأولى لاستعادة البوصلة.
بدأ يدوّن معلومات عن المحاولات الإسرائيلية للبحث عن آثار هيكل سليمان المزعوم، لفت انتباهه كثرة العلماء و الحركات المساهمة في هذه العملية و انتظام عملها، فحاول بدلاً من الاستسلام تعريف الناس بهذه الشخصيات و كيفية عملها، فالمعرفة خير من التباكي، هذه الجملة التي طالما رددها.. بدأ بطباعة الملاحظات و المعلومات التي جمعها على حاسوبه الشخصي.
1_الفيزيائي "لاجرت دولفين"، باحث في معهد بحوث "ستانفرود"، ابتكر جهاز للتصوير بأشعة إكس، يعتمد على الاستقطاب ، بحيث يكتشف ما هو موجود تحت الأرض، و قد حاول استغلال جهازه لتصوير المسجد الأقصى لإثبات أنه مقام على أنقاض هيكل سليمان.*
قال لنفسه: يا لخبثهم و حماقتهم، يألفون الخرافات و يبحثون عن دلائل لها في الواقع.
تابع الكتابة، متعجباً من الأسماء التي يراها، مثيرة فضوله:
-موشي لفنجز! و من هذا أيضاً!
"مؤسس حركة جوش أمونيم و هي عنصرية دينية سياسية، معناها كتلة الإيمان، تنشط في مجال الاستيطان و في مجال محاولة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، و تؤمن بالعنف لتحقيق أهدافها، و من مبادئها "لا تخلي ولا انسحاب من أرض إسرئيل الكاملة" و هذه الحركة من حزب المتدينين الوطني "المفدال".*
-"دينيس مايكل" هو من حاول إحراق المسجد الأقصى سنة 1969م و هو مسيحي أسترالي الجنسية
-"حركة إعادة التاج لما كان عليه" حركة صهيونية تهدف إلى الاستيلاء على بيوت المسلمون المحيطة في منطقة حائط البراق من أجل محاصرة المسجد و هدمه (تمهيداً للاستيلاء).*
حل المساء وما زال أحمد غارقاً في الكتب و جمع المعلومات، دون أن يفكر لحظة في إراحة يده المصابة في إحدى المواجهات عند إحدى نقاط التماس.
وبينما هو منهمك في بحثه سمع طرقات قوية على الباب، توجه نحو الباب و علامات التعجب على وجهه، فمن سيطرق باب البيت في هذه الساعة المتأخرة!
فتح الباب فوجد مجموعة من جيش الاحتلال، تمتم قائلاً: ها أنتم مرة أخرى
صرخ الجندي في وجهه:
-هل أنت وحدك هنا؟
-لا، هناك شقيقتي
-أين هي؟
-نائمة
-اذهب لإيقاظها
-لكنها مريضة
-هذا ليس شأني، دعها تنهض
حاول أحمد إقناعه بعدم إيقاظها و إدخال أحد المجندات لدخول الغرفة و تفتيشها، لكنه فشل.
توجه مستسلماً نحو غرفتها، همس بصوت منخفض:
-وطن، استيقظي.. انظري هناك جنود في البيت لا تخافي
-لماذا توقظني في هذه الساعة! أريد ن أنام، أنا متعبة
-أقول لك الجنود على باب البيت.. هيا حبيبتي
عاد الجندي يصرخ ثانية مستعجلاً إياهم، حاول أحمد مساعدتها على النهوض، غسلت وجهها و ارتدت حجابها و ذهبا إلى الصالون كما أمر الجندي.
جلسا على الأريكة بجانب بعضهما بعض، قال الجندي هل هناك أحد غيركم؟
أجاب أحمد: لا
-أين أهلكم؟
-في زيارة لأحد الأقارب
أشار بيده إلى إحدى الغرف ، قائلاً ما هذه؟
هم أحمد بالوقوف نحو الغرفة حتى يشعل المصباح، صرخ به الجندي يأمره بالجلوس ثانية. نظر إلى وطن بتعجب، همست له قائلة:
-ما هذا الأدب؟ منذ متى لا يدخلون الغرف و يقوموا بتفتيش كل زاوية فيها!
- لا أدري، أعتقد أنهم حفظوها أكثر منا.
عاد الجندي يسأل:
_ما هذه أيضاً؟
_المطبخ
و قام أحمد ثانية ظناً منه أنهم سيقومون بتفتيش المطبخ كالعادة. علا هذه المرة صوت صراخ الجندي..
قال أحمد بتعجب: -ماذا؟ سأشغل المصباح!
-عد إلى مكانك فوراً.
عاد أحمد إلى مكانه و علامة الاستغراب تعتلي وجهه و وجه شقيقته، ما الذي يحدث! بعد صمت قصير، قال الاثنان معاً:
-آه السك...
أدركا أن الجندي يخاف أن يمسك أحدهما سكيناً و يقضي عليه، أو يخرج له أحداً من المطبخ.. تجنب أحمد النظر لأخته، محاولاً كبت ضحكته على الرعب المصاب به الجندي الذي يحاول إخفائه بالصراخ المرتفع.
بعد ذلك أمر الضابط الجنود بالانصراف ، و قال لأحمد أتمنى أن تكون قد جمعت معلومات قيمة مع زملائك، و خرج.
قالت وطن: اللعبة المعتادة، "نحن نعلم كل شيء"! قالت ساخرة لقد أرعبتمونا حقاً.
بادلها أحمد ابتسامة ساخرة، ثم قالت وطن دعك منهم، هيا إلى النوم، أمامنا يوم مقدسي طويل..
ضحك أحمد، قال مستسلماً، حسناً حسناً ، أفهم أنك قررت! إذن إلى النوم.. تصبحين على خير وطني..
-و أنت بألف خير
مع خيوط الفجر الأولى لنهاية شهر نيسان، استيقظت وطن شاعرة بألم في يدها، لكنها قاومت و غادرت فراشها.. غسلت وجهها مزيلة بماء القدس كل التعب و الخيبات، ثم حضّرت كوباً من النسكافيه، و خرجت إلى شرفة البيت المطل على قبة الصخرة، أخذت نفساُ عميقاً و ملأت رئتيها بهواء المدينة المعبّق بالتاريخ و القوة والكبرياء (فعشق القدس لا يترك في القلب مكان لاي شيء آخر) وبهذا أخذت جرعتها اليومية لمقاومة الذل و القهر الذي يعانيه أي مقدسي. سمعت وطني لفيروز، و بدأت تغني: "وطني و حياتك و حياة المحبة شو بني عم اكبر و تكبر بقلبي"، وودت لو تعانق المدينة. قالت لنفسها لأحضر ملابسنا حتى نبدأ أعوامنا الجديدة بيوم مقدسي، وأيضا علي إقناعه أنني بخير. شربت ما تبقى من كوبها، و ذهبت لكيّ الملابس.
استيقظ أحمد على صوت الحركة..
-ماذا تفعلين! الساعة السابعة يا فتاة!
-صباح الخير، حضرت لك ملابسك، هيا.. أمامنا يوم طويل، حسناً سأكون أحسن منك و أنا من سأقول أولاً كل عام و أنت بألف خير، و أنا بألف خير أيضاً.
-هاهاهاها.. و هل أنت أفسحت لي المجال لأتحدث! صباح الخير وطني.. كل عام و أنت بألف خير
- ونحن بألف خير، هيا هيا انهض
تعجب أحمد من نشاط شقيقته، استجاب لها، و نهض من فراشه، جهزا نفسيهما، و خرجا من البيت.
سارا سوياً في شارع صلاح الدين، بدأت وطن بممارسة الموهبة التي رافقتها منذ الصغر، قراءة اليافطات، "شارع صلاح الدين".."طريق باب العامود" .."مركز نور الطبي".."طريق الآلام".."مطعم أبو شكري" و أخيراً!
ضحك أحمد، و طلب الفلافل من البائع المقدسي الطيّب، جلست وطن على كرسي تنتظر الفلافل و الكعك المقدسي الذي لا مثيل لهما، و كأنها ستجربه للمرة الأولى، تأملت المحل الذي يتواجد في البلدة القديمة منذ عام 1948م، و تعاقب عليه ثلاثة أجيال، و ما زال مشاركاً في صمود المدينة.
استمتعا بالكعك المقدسي الذي بالرغم من تواجده في عدة مدن فلسطينية- لكن سر طعمه كسر جمال المدينة التي لا يضاهيها في الجمال مكان في العالم بأسره-.
قال أحمد مقاطعاً تأملات وطن، حسناً و أين هي محطتنا التالية؟ حسب الجدول الذي تم تخطيطه من قبل حضرتكم.
-إلى سوق خان الزيت.
-حسناً، لكن هل أنت بخير؟
رمقت وطن أحمد قائلة : " لا ألم في القدس" هذه المدينة التي كانت بلسماً لوجع النبي عليه الصلاة و السلام عندما فقد أحب الناس إلى قلبه، فما بالك بوجعي الصغير؟
ابتسم أحمد إليها قائلاً : عليه الصلاة و السلام، حسناً يا فتاة المدينة، هل أنهيت فطورك؟
-نعم، الحمدلله
-بالعافية، إلى سوق خان الزيت إذن، و أتمنى أن نخرج منه.
ذهبا إلى أكبر أسواق المدينة حيث الحلوى و الفواكه المجففة و السمسمية، و محلات القطع الأثرية و التذكارية. اقتربا من محل الكنافة، وقفت وطن دون أن تنطق بحرف، طلب لها أحمد قطعة؛ فإحدى طقوس الدخول إلى السوق تذوّق كنافة، بعدها أخذا يجولان في السوق و يتأملان الناس التي تتذوق، و تشتري، و تفاصل بالأسعار، ورائحة زعتر و بهارات محلات عبد المنعم الشيخ قاسم تفوح في أرجاء المكان، و مرا بجانب حانوت أبو عماد الذي بات معلماً من معالم المكان.
وقف أحمد قائلاً: - من طريق الآلام أم حارة النصارى؟
-ولا واحد.. إلى الأمام، إلى حانوت الحلاوة القديم.
-وطن!!
-لا بأس بإضافة قطع من السمسمية إلى مخزني، إنه يوم ميلادنا، و سمسمية عيد الميلاد غير!
لم يستمر أحمد بالجدال؛ فهو يعلم بأنه الخاسر أمام السمسمية، اشترت وطن قطع منها، و استمرا بالمشي حتى وصلا إلى سوق العطارين، أي نهاية سوق خان الزيت
قال أحمد: ما الخطة الآن؟
-ممم، قهوة عند باب العامود، ما رأيك؟
-كم هي جميلة الديمقراطية! حسناً إلى باب العامود.
أحضروا القهوة من أحد الباعة و جلسوا..
ابتسمت وطن ابتسامتها المعتادة عند رؤيتها لباب العامود، ساد الصمت و الشرود اتضح في عينيها، نظر إليها أحمد متأملاً، و لاحظ ما تحمله عيناها من أوجاع و خوف، ثم قال ممازحاً: - مرحباً، نحن هنا في خدمتكم.
ضحكت ضحكة قصيرة. تابع: ماذا هناك؟ تكلمي.
و انفجرت كالقنبلة الموقوتة: - التفاصيل تذبحنا كل يوم.
قطب أحمد جبينه قائلاً: ماذا تقصدين؟
-هل انتبهت إلى الطفل الذي كان يقف عند سحب جثمان إسحق بدران؟ ما الذي قُتل فيه في تلك اللحظة؟ كيف نام؟ هل خاف أم غضب أم كره البلاد أم أم قرر أن ينصر الحق؟ ما الذي سُرق منه بعد تلك الحادثة؟ ماذا عن أحمد مناصرة؟ ماذا عن الرعب الذي أصابه عند استشهاد ابن عمه أمام عينيه، والشتائم و الأوجاع التي عاشها؟ ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ حكم 12 سنة!! هل تعلم ماذا يعني ذلك؟ يعني الكثير من الأعياد بلا أهل، أو بالأصح عيد بلا عيد. يعني لا مدرسة، هذا الطفل الذي يجب أن يكن كل همه هو علاماته المدرسية والتخصص الذي يريده ويهواه، سيُحرم من دلال والدته، سيُحرم من الوجبات التي كان يستمتع بها مع عائلته.
تنهدت، ثم تابعت: ماذا عن الشباب في البلاد؟ ألا تلاحظ كمية الغضب المكبوتة؟ عند أي خلاف ولو كان تافهاً تجد بصراخهم نبرة جيل مخنوق و غاضب. قل لي، ماذا عن شقيقة محمد أبو خلف "ندين" التي اعتادت أن يوصلها إلى الروضة دائماً؟ لقد تحوّلت المرحلة الجميلة من حياتها إلى كابوس يومي. ماذا عن الذين حاولوا سحب جثمان صديقهم عند استشهاده قبل أن يستولي عليه جنود الاحتلال. تخيل المشهد، صديقك يفارق الحياة و تؤجل البكاء، و تحاول الحفاظ على حقه في الدفن! أن تحميه من الثلاجات! ماذا عن أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم منذ أشهر و منهم من تعدى سنة! أصبحت أكبر أمانينا دفن الشهداء! ماذا عن الطفل الذي لم يكف عن البكاء عند وداع الشهيد حسين أبو غوش، عن نظرة طفلة في تشييعه لم تكن تبكي يا أحمد، كانت تفكر، بم تفكر؟
ماذا عن الشباب المقدسي الذي اضطر منهم ترك المدرسة بعد الغياب المتكرر بسبب السجن المتتالي؟ عن الإهانة و التفتيش الذي يتعرض له الطالب المقدسي! عن خوفنا من أن نستيقظ ولا نجد فيها معلم من معالمنا؟ ماذا تعرضت المدينة لزلزال و...
أعدم الخوف و الدموع و الأوجاع التي بداخلها الكلمات، صمتت و حبست دموعها حتى لا يراها الجنود المتواجدين عند باب العامود. وضع أحمد يده على كفتها و نظر في عينيها قائلاً:
-انظري، لن أكذب و أقول أن الوضع مريح، أو حتى أي منا يعيش بأمان. نعم، مستقبلنا يشكو من التشوه و الفوضى، لكن عليك أن تحافظي على روحك و حماسك للمتابعة في الحياة في ظل ما حدث و ما سيحدث. القدس بحاجة لأرواح تحيا من أجلها، هي تقوى بنا و نقوى بها. أنت من تقولي دائماً أن قوتك من القدس، أليس كذلك؟ هل فكرت في هذا التفصيل؟ كيف التي تغتصب و تدنس كل يوم أن تمدك بهذه القوة؟ كوني مثلها. هي بحاجة لك كما تحتاجينها يا حبيبتي. الله وحده الذي لا يحتاج لأحد، الذي أود قوله، أعلم أن حياتنا قد تكن كالأساطير و غير منطقية، لكن كما تفكرين بالتفاصيل الموجعة، حاولي أن تتأملي التفاصيل التي تمنح القوة في هذا المكان، وفكري كيف ستصبحين إحدى مصادر الحياة و القوة للمكان، تذكري دائماً، بإمكاننا تحويل الألم لقوة و أمل. و تذكري مدينتنا لن تمت، إنه وعد الله القادر.
اقترب منهم أحد الجنود. ابتسم أحمد قائلاً: ها قد بدأنا اللعبة المعتادة.
طلب الجندي هوياتهم، ثم طلب منهم تفتيش الأكياس، و حقيبة وطن دون أدنى احترام لأي من حقوقهم في الحفاظ على خصوصيتهم، ثم قام بتفتيش أحمد.
لم يكن من وطن و أحمد سوى صنع ابتسامة أمام الجنود، ودفن الألم و الذل في القلب؛ فأمام الجندي كان عليهم ممارسة مقاومة الابتسامة التي تعتبر سلاح فلسطيني لا مثيل له أمام محاولات استفزازهم.
يئس الجنود منهم ، فحتى طلبه منهم بتغيير أماكنهم من على الدرجات لم يُجدي نفعاً معهم.
بعد فترة، اقترب موعد صلاة الظهر، فسارا إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك. و عند وصولهم، جلسا أمام قبة الصخرة متأملان عظمتها و جمالها، و صمتا، لم تسعفهم هذه المرة الكلمات للتعبير عن القهر الموجود بداخلهم، فما كان منهم إلا أن سلما أنفسهما للقبة، تاركين لها أوجاعهم التي تمتصها كالعادة و تحوّلها لتحد و إصرار على المواصلة.
بدأت وطن تغني: "سنرجع رغم الأسى سيدي، فنحن على موعد في الغد، سنغرس في الطور زيتوننا.."
في تلك الأثناء، مر شابان ، أحدهم من الواضح أنه يزور المدينة للمرة الأولى و الآخر من سكانها. لفت نظرهما سؤال الزائر لصديقه وهو يشير إلى قبة السلسلة، و ما اسم هذه؟
أجاب صديقه ممازحاً : إنها الأخت الصغرى لقبة الصخرة.
كان الموقف مضحكاً، ولكن في طياته رعباً، رعب الجهل الذي يسيطر على الفلسطيني رغم حبه للمدينة. تدخلت وطن قائلة و الابتسامة على وجهها: اسمها قبة السلسلة، بناها الخليفة عبد الملك بن مروان.
ابتسم الشاب بخجل من جهله وشكرها ماضياً مع رفيقه.
أما أحمد نظر إليها مبتسماً و بفخر، قائلاً: أحسنت يا فتاتي! فاسترداد المكان لن يحدث إلا بعلمنا بأماكنها و حدودها و تفاصيلها.
- بالطبع، و إلا كيف لنا المطالبة بحقنا بها، ونحن على جهل بأبرز معالمها!
حملق أحمد قائلاً: يا إلهي!
_ماذا هناك؟
_لقد نسيت الهدية في البيت..
ضحكت وطن قائلة: و أنا أيضاً نسيت هديتك. لكن، أنا الآن في القدس و أرى ابتسامتك، فهل سأكون بحاجة لشيء ما في طريقي؟
ارتسمت على وجهه ابتسامة لم تغب يوماً عن وجهه، ولم يعلم ماذا سيقول..
هطلت زخات من المطر. قال أحمد مستنشقاًرائحة الأرض و تراب المدينة: لو اشتمّ هذه الرائحة كل مغترب يتباهى بحصوله على جواز من دول أجنبية لمزقه ولم يخرج من البلاد لحظة.
أومأت وطن برأسها موافقة شقيقها في كلامه.
أذن العصر. قالت وطن : هيا، فالروح تحتاج سجدة على هذه الأرض.
قال لها: صلاة لتبارك عامنا الجديد في ثراها! إنها أكبر نعمة.
و اصطف كل منهم للصلاة. و عند السجدة الأولى أُزيح كل ما في قلوبهم من أسى العام السابق، و جدد رونق و صلابة المدينة أرواحهم، وأصبحوا مستعدين لمواجهة عامهم الجديد، من أجلهم وأجلها.