رام الله- محمود الفطافطة
رغم مرور أكثر من عقد على ابتكار "الفيسبوك" إلا أن الجدل بشأن هذه التقنية الجديدة لا يزال محتدماً ومتجهاً نحو مسارات متناقضة من الآراء والمواقف التي تصل أحياناً إلى حد التنافر شبه المطلق. في هذه الفترة القصيرة نسبياً سال حبر كثير ودارت نقاشات صاخبة وأُجترحت تقنيات اتصال وتواصل جديدة دون أن يلتقي "طرفا الصراع" في حيز القاسم المشترك ليؤسسا معاً "خريطة طريق" ترسم وتنظم مسار ومسيرة هذه "الامبراطورية الافتراضية" التي يتجاوز تعداد قاطنيها المليار مستخدم.
هذه التقنية التي، ربما، لم يسبقها أي ابتكار تقني من حيث الانتشار والانبهار والتأثير تباينت التوجهات حولها، وقد تكون التوصيفات التي أُطلقت عليها مدخلاً مناسباً لتحديد شيئ يسير من معرفة ماهيتها.. فهناك من نعتها بـ "الدولة الثانية" (أي بعد الصين) نظراً لعدد مستخدميها، وأحياناً وُصفت بـ "دولة الإنترنت الديمقراطية" لشفافية وحرية تداول مُخرجاتها، وفي أحايين أخرى أُطلق عليها "الرقابة الناعمة" لدورها في كشف الفساد ومناهضة الاستبداد، فضلاً عن وصفها بـ "أم الشبكات" لأهميتها الفائقة وشهرتها الأوسع بين نظيراتها الأخرى من وسائط الإعلام الجديد.
تشكيل للعقل أم ترحيل للأزمات؟!
ورغم هذه التباينات الموضوعية، إلا أن هناك عدداً ليس بالقليل من سكان العالم يُجمعون على أن وسائط الإعلام الجديد، وفي مقدمتها "الفيسبوك" تتولى الآن إعادة تشكيل العقل الإنساني وطرق تفكيره وتوسيع نطاق الاتصال والتواصل والتأثر والتأثير، عدا عن أنها أصبحت تمثل في بعض أبعادها مشروعات هادفة ودعوة للتغيير الاجتماعي والفعل العام المشترك وتوحيد الجهود.
هذه الجهود هي التي يرى فيها هؤلاء المحرك والرافعة لحدوث ثورة جديدة في العالم عن طريق استقطابها لمئات الملايين من البشر الذين لم يكن لهم سوى دور هامشي في الحياة، فأصبحوا يُناقشون مشكلات المجتمع والإنسان والعالم بأسره، ويتبادلون في ذلك مختلف الآراء والخبرات ويؤلفون قوة فعالة من الرأي العام العالمي، قادرة على تغيير النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت تنفرد بصياغتها النخبة أو الصفوة.
هذا المشهد العام لا يتجاوز قاعدة التشابه إذا ما تم إسقاطه على واقع العالم العربي ومنه فلسطين. وإذا ما خصصنا الحديث عن "فلسطين الفيسبوكية"، فإن هناك جملة أسئلة تبرز على السطح تساهم في تقريب الصورة العامة للموضوع المُناقش. أبرز هذه الأسئلة: كيف يمكن تفكيك العلاقة بين "الفيسبوك" ومفرداته المرتبطة بالمجال العام والمجال الافتراضي، وحتى الرأي العام وعلاقة ذلك بالبنية الاجتماعية وبالتحول الاجتماعي، وكيف يمكن أن يؤثر ويشكل أحدهما الآخر؟ وما هي مساهمة هذه التكنولوجيا الاتصالية في التحول والتواصل الاجتماعي وحرية الرأي وثقافة الديمقراطية وتعزيز الشفافية والتكافؤ في الوصول إلى المعلومة؟ وما هو مضمون المحتوى المنشور على مواقع الفيسبوك الفلسطينية؟ وما مدى تأثير كل ما سبق على الواقع الفلسطيني بما له من خصوصيات وما يعيشه من تحولات أحياناً هادئة وأخرى سريعة ومفاجئة؟
الحداثة قبل التحديث!!
يقول أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت د. وليد الشرفا: عندما نناقش هذه المسألة يتوجب الانطلاق أساساً من التعرف على رصد عمق التحول الصوري لهذه التقنية وعلاقته بالتحول على الأرض، ومدى التغير الفعلي نحو الديمقراطية وحرية التعبير، وهل بالفعل تم خلق طبقة تاريخية متماسكة أم أن الأمر يتعلق بطبقية إلكترونية وحسب؟ هذه الجدلية وفق "الشرفا" هي التي تحدد طبيعة تجليات واقع حرية الرأي والتعبير في فلسطين ومدى التبادل والاستفادة التي من الممكن أن يوفرها المجال الاتصالي الجديد للحركات الاجتماعية الفلسطينية في تنظيم ذاتها والتعبير عن أحلامها في قضايا كبرى أهمها الاحتلال وليس آخرها الانقسام.
ويؤكد الشرفا أن التحول التقني في العالم العربي وفلسطين منه هو تحول طارئ وليس حداثياً، بمعنى أن هذه التقنية تفيد واقعاً خدماتياً، عندما تكون المؤسسات التاريخية قوية: دولة، أحزاب، بنية تحتية، منوهاً إلى أن نقطة الانتقاد هنا هي أن هذه المجالات قد تحولت إلى بديل للمؤسسات التاريخية، وحولت الرأي العام إلى مؤسسة تاريخية، وهذا تحول خطير، يُحول القضايا المصيرية إلى حالة خدماتية في الصراع على الرأي العام.
ويرى أن الوظيفة العامة للفيسبوك في فلسطين هي حالة مرتبكة، والأحزاب السياسية تهيمن عليها بصورٍ شتى، وبالتالي فإن تأثير الفيسبوك يبقى ضعيفاً في العالم الواقعي وإن شهد حراكاً وتوسعاً في العالم الافتراضي. دليل الشرفا على ذلك يتمثل في هشاشة الحشد الذي نظمه شباب الخامس عشر من آذار في كل من القطاع وغزة في العام 2011، فضلاً عن هيمنة الأمني والحزبي على مفرداته التي لم تستطع إنتاج مقومات لمسيرةٍ مرجوة، أو نتائج مطلوبة.
سياحة بلا خريطة
وفي السياق ذاته ترى دراسة أعدتها مؤسسة "بيالارا" أن الشباب الفلسطيني استخدم "الفيسبوك" لتعويض حاجاته ومكبوتاته الاجتماعية والسياسية، معتقداً بذلك أنه سيغيرها على أرض الواقع. وتبين الدراسة أن هؤلاء الشباب لم يستفيدوا من هذا الحيز للقيام بعمليات مناصرة ذات طابع جدي، أو للتحشيد ضد أو مع قضايا تهمهم، منوهة إلى أن جهود الشباب الفلسطيني تبعثرت، خاصة مع الكم الهائل من التوجهات التي يتيحها الفيسبوك، وأن السبب في ذلك يعزى إلى عدم وجود إدارة حقيقية تنظمهم وتعبؤهم في مسارات افتراضية معينة. وتوضح الدراسة أن توظيف الفيسبوك في النهوض بطموحات المستخدمين الفلسطينيين لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار تشكيل مرجعيات واقعية، متمثلة بمؤسسات المجتمع المدني، التي يمكنها أن تقود عملية التوفيق بين ممكنات الجدل بين الحيز بشقيه الافتراضي والواقعي.
في المقابل يرى عامر عوض الله أمين مكتبة البيرة العامة أن الحضور الفلسطيني على "الفيسبوك" شكل معادلاً موضوعياً للوجود، وللرغبة في تأكيده على أرض الواقع وفي ميدان المواجهة، مبيناً أن هذه التقنية ساهمت في نشر المعلومات والتعريف بالقضية الفلسطينية وفضح السياسات الإسرائيلية عبر مقاومة النفي والإلغاء المتكررة من قبل دولة الاحتلال، فضلاً عن اعتبارها نافذة يخترق بها الفلسطينيون الحصار المفروض عليهم من قبل الاحتلال، ويطلون منها على العالم متصلين ومتواصلين.
وفيما يتعلق بالعلاقة بين الواقع الافتراضي في فلسطين والعالم العربي بشأن الحراك الاجتماعي والشبابي تحديداً، فإن الناشط الشبابي سمير حجازي يؤكد أن الأمر لم يكن متماثلاً بالتحركات الشبابية الحاصلة في الوطن العربي، وبالتالي فإن إسقاط الشباب الفلسطيني حالة العرب على ساحتهم بخصوص دور وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي، سيما "الفيسبوك" لم تكن مجدية، فضلاً عن أنه في الحالة الفلسطينية اعتبر "الفيسبوك" هدفاً في حد ذاته وليس أداة أو وسيلة تقنية ترفدها عناصر مساندة أخرى، وهذا كان بمثابة الخطأ الذي استجلب نتيجة قريبة إلى الفشل واجتراح أسئلة تثير من الانتقاد أكثر مما تؤسس قاعدة للترميم والعبر.
وفي الإطار ذاته يرى الباحث عدنان الشعراوي أن "الفيسبوك" يشكل متنفساً إلكترونياً للجمهور الفلسطيني، وأن له العديد من الإيجابيات، تتمثل في مواجهة القيود الاجتماعية كالتقاليد والعادات الغريبة عن الدين والعقل، والانفكاك عن هيمنة الاحتلال وممارساته عبر الاتصال مع العالم الخارجي، سواء الأهل والأصدقاء أو المناصرين للفلسطينيين وقضيتهم، خاصة مع شباب الثورات العربية، علاوة على تسويق المستخدم لشخصه من خلال كتاباته، ومن ثم تقييم كينونته الذاتية من خلال الردود والتعليقات والمشاركة في المجموعات الافتراضية المختلفة.
بين التنفيس والتحريك
وبخصوص دور "الفيسبوك" في المشهد السياسي فإن الباحث طارق الشرطي يرى فيه عاملاً مهماً في خلق الديمقراطية القائمة على المشاركة بدلاً من الديمقراطية النيابية التقليدية، إلى جانب المزيد من تدخل وسائل الاتصال في الأمور السياسية، بدءاً من تقديم المرشحين للانتخابات وانتهاء بعمليات الحشد والتعبئة السياسية وتسهيل مهمة الحكومة في الحكم، مع استمرار توظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة عبر الوسائل المختلفة المحلية والإقليمية والدولية في معالجة القضايا السياسية التي أُدخلت في العلاقات الدولية وما أطلق عليه "دبلوماسية الإعلام الالكتروني".
ويضيف: "إن الجهد الفلسطيني في "الفيسبوك" لم يستغل هذه الوسيلة لإعلاء صوت القضية الفلسطينية وخلق حالة من التضامن العالمي، لأن قسماً كبيراً من الجهد استغل في الصراع الداخلي، كما أن هذه التقنية شكلت حلاً مؤقتاً لحالة الاغتراب السياسي والاجتماعي في المشهد الفلسطيني، ولكن هذا الحل ليس مضمون النتائج. وكذلك، فإنه رغم أن صفحات الفيسبوك عززت حرية الرأي والتعبير في فلسطين، إلا أنها لا تعكس بالضرورة احتراماً لثقافة الاختلاف وحرية الرأي".
بدوره يقول الكاتب السياسي د. مجدي عيسى إن الفيسبوك في فلسطين ليس كالعالم العربي، ويبدو أن تأثيره كان تنفيسياً في الصراع مع الاحتلال بدﻻً من التأثير التحريكي ضد الاحتلال، في حين لعب الفيسبوك في كثير من الدول العربية في إشعال ثورات وخروج الملايين للشوارع للتظاهر ضد الأنظمة الحاكمة وإسقاطها، مشيراً إلى أن الفيسبوك في فلسطين ﻻ يعدو أكثر من كونه وسيلة للتنفيس السياسي والمناكفة السياسية والتسلية الاجتماعية.
نصوص بلا روح
وبخصوص الشأن الثقافي يشير الشاعر والكاتب سميح محسن أنه مما لا شك فيه أن "الفيسبوك" يمثل وسيلة اتصالية وتواصلية هامة لدى الكتاب والمثقفين عموماً، لما لهذه التقنية الحديثة من سهولة وسرعة وتفاعلية في التعاطي مع النصوص الأدبية والثقافية عموماً، منوهاً إلى أن المسألة تكمن في طبيعة المستخدم وكيفية توظيفه لهذه الوسيلة الاتصالية المهمة. ويوضح محسن أنه رغم وجود نصوص أدبية وثقافية جيدة ونوعية على "الفيسبوك" إلا أن بعض الذين يدعون أنهم "كتاب أو شعراء" ينشرون مضامين لا علاقة لها بالأدب، وبعض القصائد لا تمتلك حتى شروط فن الخطابة. ويبين أن "الفيسبوك" ساهم في نشر "الوجبات السريعة" لكثير من النصوص الأدبية الخارجة عن أي منطلقات علمية أو اشتراطات معرفية.
وفي السياق ذاته يقول الشاعر الشاب فارس سباعنة إن "الفيسبوك" هو مساحة الحوار التي كانت تنقص مجتمعاتنا العربية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، والحوار هو الوسيلة الفضلى لتطوير وعي يرقى إلى مستوى الممارسة الديمقراطية التي تمكن الشعوب من رؤية الأفق السياسي- القانوني لدى حكوماتهم، والتحرر من الخديعة التي عاشها آباؤنا سنيناً، مضيفاً: "لا أبالغ حين أقول إن "الفيسبوك" حرر أفكار الكثيرين من نظرية المؤامرة، وحجّم الآراء اليمينية المتطرفة، حتى إنه بدأ يتغلغل إلى لغة مستخدميه في حياتهم العادية، كما رفع من مستوى الخطاب المؤدب واللبق في التعامل مع الآخرين وانتقاء الألفاظ الجيدة عند الحديث".
الرقابة التي لا تموت!!
أما بشأن الرقابة والفيسبوك، والتي يكثر الجدل والالتباس حولها، فإن الباحث محمود الفروخ يؤكد أن الرقابة بكافة أشكالها، خصوصاً الرسمية منها، أخذت تتراجع إلى حد الاختباء والاختفاء ليس في المشهد الفلسطيني فحسب، بل والعربي والعالمي عموماً، منوهاً إلى أن سوط الرقيب والرقابة لم يعد قادراً على الفعل والمطاردة إزاء أولئك الذين ارتضوا أن يكونوا جزءاً من عالم الشبكات الافتراضية، يقولون ما يشاءون، معبرين عن آرائهم ومواقفهم وهمومهم وآمالهم بكل حريةٍ، سواء أكان ذلك بأسمائهم الحقيقية أو بأسماءٍ وهمية.
ولكن في مقابل ذلك، تؤكد دراسة أعدها الباحث السعودي عبد الله الكندي أنه رغم أن التطور التكنولوجي في ميدان الاتصال قد أسهم في تعزيز الحريات الإعلامية، إلا أن وسائل السيطرة والمراقبة قد تطورت أيضاً على مستوى الواقع، بأشكال وصيغ أخرى مختلفة، مشيراً إلى أن الإعلام لم يخرج من دائرة الرقابة المسبقة أو اللاحقة إلا بحدود معينة.
وفي الصدد نفسه تذكر الإعلامية بثينة حمدان أن "الفيسبوك" يشكل أداة إعلامية واتصالية غاية في الأهمية، وإن لازمتها بعض السلبيات والمحاذير، لكون أي تقنية تحمل وجهين في وظيفتها سلبي وآخر إيجابي. وتبين أن النساء والشابات الفلسطينيات لم ينجحن بعد في توظيف "الفيسبوك" للتعريف بواقعهن والدفاع عن حقوقهن، منوهة إلى عجز تلك النساء في تشكيل مجموعات منظمة على الفيسبوك، فضلاً عن أن مضمون المواد المنشورة في هذا الحيز الافتراضي ليس بالمستوى المطلوب خاصة فيما يتعلق بحقوقهن المرتبطة بالمجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية.
وبالاستناد إلى كل ما تم ذكره يمكن لنا الخروج بجملة توصيات، أهمها: أن حرية الرأي لا تعني حرية التشهير، فهي مرتبطة بثقافة الديمقراطية، لذلك على المستخدمين تعزيز ثقافة الاختلاف ومفاهيم الديمقراطية، كما ويمكن "للفيسبوك" أن يكون عاملاً مساعداً في خلق تعاطف هائل مع القضية الفلسطينية، إضافة إلى خلق منظومة من أطراف فلسطينية مختلفة لتوظيف المجموع العام في الفيسبوك لخدمة قضايا الوطن والمواطن.
خلاصة القول: يتوجب على المستخدم الفلسطيني لتقنية الفيسبوك أن يدرك دور ووظيفة وتأثير هذه الوسيلة التواصلية والاتصالية الحديثة في حياته الاجتماعية والسياسية والعملية وغيرها.. فالفيسبوك وسيلة ذات حدين، إيجابية إذا تم توظيفها في التنمية والثقافة والوحدة والتضامن والتكافل، وسلبية إذا استُخدمت لتمرير توجهات وأفكار خاطئة وضارة أو تصفية حسابات شخصية أو حزبية أو فئوية ضيقة.. الفيسبوك أداة فيها النعمة وفيها النقمة كذلك.. فلنسعَ دوماً أن تكون لنا نعمة لا نقمة..