ربما يكون الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض احتفاءً بالأغنية الوطنية لخصوصية القضية التي يحملها هماً وأملاً .. إنها الأغنية التي تسكن الروح قبل أن تصدح كلماتها في خيوط الفضاء ورحابة العواطف ولحن الانفعال.. إنه الشعب الفلسطيني الذي طالما تراقص مع سيمفونية ( من سجن عكا، اشهد يا عالم، وين الملايين، رجع الشهيد، إني اخترتك يا وطني، بالأخضر كفناه، يا رايح صوب بلادي، وقفوني عالحدود، طالعلك يا عدوي، سكابا) وغيرها الكثير من الأغاني والمواويل التي ألهبت الوجدان، وقدحت فتيل الحجر، وغدت معزوفة للثوار السالكين نحو مخادع السالبين .
هذه الأغاني وغيرها لم تُنحت لتتراقص بها النفوس حيناً أو لتخلد مطربيها أحياناً أو لتتخم جيوب المنتجين في أحايينٍ أخرى، بل هي الأغاني التي صُنعت من دم الشهيد وثبات المعتقل وآهات الثكالى والجرحى... إنها أغانٍ جُبلت بتراب المشردين وبعذابات الغارقين ببؤس المنافي والشتات.. إنها الألحان التي تقاطر فيها نشيد المواجهة للمحتلين والفاسدين... إنها المفردات التي تشربت من رحيق الأحرار المدافعين عن وطنهم من غول الاستعمار وتجار الدم والحروب والسلام.
لم يكن الفلسطينيين ليغنوا طلباً للفرح المؤقت أو نسياناً لألمٍ دائم .. إنهم غنوا وما زالوا يغنون لأن في أغانيهم التحام بوطنهم واعتزازاً بقضيتهم وثباتاً على مواقفهم الحرة والشريفة... فكم من أغنية خلدت الشهداء وداوت الجرحى وصبت في إرادة القابعين بأقبية التحقيق ترياق الصمود والعنفوان... كم من أغنية تلاقحت مع ذاكرة المنفيين لتزيل من أرواحهم وجع النفي والتشتت.. كم من أغنية سحرت النفوس لتسمو فوق الهويات القاتلة والمصالح الضيقة والجزئية... إنها الأغنية الفلسطينية التي تصاعدت وتيرتها بلحن المجد والتمجيد لتؤكد للعالمين أن الفلسطينيين شعبٌ يستحق الحياة والحرية والخلود مثلما تستحق أغانيهم الخلود والافتخار.
الفلسطينيون بخصوصيتهم الإسلامية وتراثهم العبق وقضيتهم العادلة لا يقبلون بفنٍ أسود، ملتهب بكلماتٍ جارحة أو مبتذلة أو مهيجة للعواطف والانقسام. هؤلاء يرفضون " الفن المعولم" الذي يسوق الأغاني الهابطة والهشة التي تسعى إلى ترويض النفوس في سراديب الخنوع والتخنث... الفلسطينيون لم تمت قضيتهم لتحيا نفوسهم بأغانٍ وضيعة وتجارية تسعى إلى إلهائهم عن قضيتهم والدفاع عن أرضهم وكرامتهم.
ومن يتتبع ويرصد بعض النشاطات الفنية التي تنظم بين حينٍ وآخر في الساحة العربية يدرك مخاطر ومثالب هذه النشاطات التي تُسمى زوراً وبهتاناً بالفنية، وما هي إلا أفعال سوداء لا فعاليات فنية... مثل هذه الفعاليات يُراد منها تدجين النفوس العربية لا سيما نفوس الشباب والأخذ بها نحو مهاوي الردى، والانخراط في التخنث والرذيلة ونسيان قضاياهم وتراثهم ودينهم وكرامتهم.
إن الذي يقوم خلف هذا " الفعل الأسود" هم مصاصي الفكر والتراث، هم أولئك الذي يريدون للفن الطيب أن يُذبح بمقصلة النسيان والتهميش والاندثار ... مثل هؤلاء لا ينتمون إلى العرب إلا اسماً وإلى الإسلام إلا رسماً... هؤلاء ارتموا في حضن أعداء الأمة ليدافعوا عن جيوبهم المتخمة بالحرام، وعن سياسات لا تريد للعرب وقضيتهم المركزية " فلسطين" إلا التذويب والتصفية
هؤلاء هم تجار الأغاني الرخيصة والبرامج المبتذلة ... كم من الملايين العربية ينتظرون لحظة بث برنامج " أرب آيدل" الذي ليس فيه من الفن إلا شعاره، وليس فيه من القيم شيئاً أبداً.. إنه برنامج يستهدف جيل الأطفال والشباب من الجنسين ليودي بهم في أحضان المسخ الفني والترهل الروحي والعبث العقلي والعزلة الاجتماعية والفوضى الإنسانية. مثل هذا البرنامج خلق حالة متكلسة من الوعي المطلوب، كما أنه نشط العصبية والنعرات القطرية بين أبناء العرب.
مثل هذا البرنامج وغيره لا يساهم إطلاقاً في ترويج الالتحام الوطني أو الشعور القومي للعرب.. كما أن مثل هذه الفعاليات لا تلهب النفوس أو تذكر العقول بقضية العرب " فلسطين".. مثل هذه الفعاليات وبائها على العرب وقضاياهم كبير، ولا تخدم قضاياهم السامية أو حقوقهم المصادرة.
الحديث في هذا الأمر قد يطول ويتشابك، ولكن ما نود التأكيد عليه أن الفن الحقيقي هو الفن الذي يُلقح النفوس بموسيقى سامية، ويغذي العقول بأفكار خلاقة، ويشحن العواطف بكلمات طيبة، ويبث في الذاكرة إيقاعاً رصيناً يُلهب الإرادة بعزيمة نيل الحقوق وقصم ظهر المحتل والظالمين...
كل ذلك لا يتأتى إلا بمؤسسات مخلصة للوطن والفن الرشيد... مؤسسات تدعم الفن الطيب وتحارب " الفن" الهابط الخبيث.. على المنتجين أن يستثمروا في الأغاني الوطنية .. وعلى الشعراء والأدباء والمسرحيين وسواهم أن يُعلوا من شأن الفن ويدافعوا عن مهنتهم السامية العريقة... لا يستحق الشعب الفلسطيني إلا فناً سامياً وجميلاً.. على الإعلاميين امتشاق سلاحهم في وجه قراصنة الأغنية وطحالب الفن الوضيع... وفي هذا الصدد نود أن نثمن جهود " صحيفة الحدث" لما ترسيه من هدفٍ نبيل في تثبيت مقولة "الفن المقاتل والمقاوم" ومحاربة الفن المتصهين أو المتعولم...علينا أن نهتف دوماً بشعار" الفن من أجل القضية لا الفن من أجل الفن أو المال".