في ديوانه الأول "الهواء ثلثا زجاجتي.. ونديمي البحر!" يضع الشاعر حنا اللبنة الأولى في مشروعه الشعري، وفيه تشغله القضايا الكبرى كالحياة والموت والألم والحب... وفي ديوانه الثاني يتقدم الشاعر خطوات، وتبقى الأسئلة الكبرى تلاحقه وهو يلاحقها دون الوصول إلى بر الأمان. ويستمر الشاعر في البحث في أسرار الحياة، وعن معنى الموت، وقيمة الحب، والألم الذي لا فكاك منه.
في ديوانه الثالث الذي ما زال مخطوطة، اخترت هاتين القصيدتين الثريتين لغوياً، وبهما ينقلنا حنا إلى فضاءاته الشعرية على بساط الريح لنتوغل معه في شعره المليء بالمتعة ولذة اكتشاف المعرفة.
يقول جبرا إبراهيم جبرا عن الشعر الذي يرغب في سماعه: إنه الشعر الذي إذا سمعته أثار في ذهني صوراً، فالشعر في النهاية يرتكز على الصورة، "فالشاعر هو الذي يستطيع أن يخلق صورة في ذهنك، وأن يصلها بصورة أخرى، وأن يسلسل هذه الصور ثم يوحدها كلها بحيث أنك أنت ترى "شيئاً" في ذهنك كنتيجة سماعك للكلمات". (جهاد فاضل. قضايا الشعر الحديث. بيروت: دار الشروق. ص186. دون تاريخ)
ويضيف جبرا: "أما الشاعر الذي لا يؤدي كلامه إلى إبداع هذه الصورة، فهو ليس بالشاعر ولا الفنان. وبما أن الحساسية الشعرية تتغير بتغير الأحداث والزمن، فلا بدّ للشاعر أن يكون سباقاً في حساسيته".
وفي محاولة تعريفه للشعر، يقول أنسي الحاج إنه: "سيادة قواي الروحية على الظواهر. ما هو الشعر إنه الحقيقة... أقصد الحقيقة التي لا نستطيع أن نراها إلا بعين الشعر، بحواسه، بجسده بمفاتيحه. الشعر هو الحقيقة التي يراها الشعر وهو الواقع الذي يؤدي إليه الشعر". (جهاد فاضل. مرجع سابق. ص323)
ودون موهبة طبيعية تملك القدرة على الانعزال والتوحد مع ذاتها في ذرا الجبال، من أجل أن ترى وتسمع ما لا يمكن لأحد رؤيته وسماعه لا يولد شاعراً.
وهكذا هو الشاعر حنا، يبدع صوره المتصلة والمتناسقة، والبعيدة عن التشتت، ويأخذنا في رحلته المصورة مع بطله الذي لا يعرف الراحة عبر الأفعال المضارعة التي استخدمها في قصيدته (يجلس، يكترث، يسّرح، يلوذ). وتسري القشعريرة في جسد القارئ، وتنتقل حيوية البطل ومرونة حركته إليه، ويحس بـ"النعنشة"، فيقوم من مجلسه ويحرث معه طريق الغد دون اكتراث بثمن الغوص في لذة المجهول في صحبة الريح.
يقول حنا في قصيدة "لا بارقة":
"لم يكن ليجلس
على هامش الغواية
بانتظار طريق
على مقاس حذائه"
ينفي الشاعر عن بطل قصيدته الكسل والخمول والاتكال، فهو يسعى بقوة نحو الغواية، يندفع ليتذوقها بشغف، لا ينتظر معجزة أو مساعدة، ليغطس في الغواية، بل هو:
"لقد حرث كل الحقول
بمحراث غيّه
واحترف ضباب السّبل"
يجرب كل ما يخطر في باله، ولا يعبأ بشيء، يتمادى في غيّه، ويحمله كمحراث يساعده على ولوج السحر والجمال ساعياً وراء الضباب الذي يلف الدروب.
يفتش عن المغامرة والمقامرة ولا يخيفه المجهول، هو يقتحم ضباب الحياة بثقة منقطعة النظير.
"وكان لا يكترث
إلا لما يلتوي في اتجاهات الرّيح منها وما لا رجاء من وصولها
لذا هو اليوم
كما في الطالح من الهواجس
يسّرح ذؤابة الخرائط
ولا يلوذ بالرجاء
يسير مهرولا في بحثه عن سر الحياة، يزيح كل ما يعترض طريقه، لا يشعر بالخوف، ولا يخشى المفاجآت، يتنطط في الحاضر، ويثب إلى المستقبل غير عابئ بالمخاوف والهواجس، يحمل ما يملكه من فكر، ويجول في أنحاء العالم ناشراً قيمه عن غزو الحياة، وهزيمة الموت، وكسر طوق النهاية.
ورغم أنه يفعل كل ذلك، إلا أنه سيبقى يطارد هلاوسه وآماله عاجزاً عن الوصول إلى الأمن والاحتماء بالسكينة. يعجبه الأمر ويثيره ولا يعود عن سيرته الأولى (غيّه).
إنه نص يتغلغل بين مسامات جلد القارئ محدثة ما قاله بارط "إنه ذلك الذي يرخي، يفعم، يغبط، ذلك الذي يأتي من صلب الثقافة، ولا يقطع صلته بها". (رولان بارط. لذة النص. ترجمة فؤاد صفا، والحسين سحبان. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر والتوزيع. ط2،2001م. ص22)
وفي قصيدة ثانية يطير بنا الشاعر من الضجر والسأم، يتخطى ذلك في ولوج المواضيع اللاهبة التي تشعل المخيلة، يقول في قصيدة "أوان الشوق":
"كان قد خبّأ الكثير من الثمر
زوادة لولوج الطرف الآخر من الحكاية، الآن وقد أزفت اللحظة
ليس له إلا أن يلفظ صرّة الذاكرة"
تتنوع الموضوعات التي يطرحها حنا في شعره، غير أنها يغلب عليها الطابع الفلسفي بما تحتويه من أسئلة حول الموت، ومحاولاته التي لا تفتر لفك شيفرته، ويبقى مفعماً بالأمل في سعيه نحو ولوج ماهية الموت.
بطلنا هنا خبأ الكثير من الثمر تحسباً ليوم عصيب، يرحل فيه إلى الجانب الآخر من الحكاية (حكاية الحياة والموت). ومع اقتراب اللحظة الحاسمة، لم يكن باستطاعته فعل شيء أمام غول الموت، فيلفظ ما تحتويه ذاكرته من لحظات عذبة وسعيدة، فهو على قناعة أن الصندوق المظلم لا يمكن له أن يضيء بحنينه وحسب. غير أنه سيجد الوقت الكافي الذي كان يفتقده أثناء حياته ليروي بصبر مساحة موته المعتمة والساكنة بعد أن يكون قد نفث آخر قطرات الهواء في صدره. هذه الصورة الفانتازية العميقة تجعل القارئ يقف لحظات، ليرى كيف يسقي الميت حقول الصمت المظلمة بدموعه التي ولا شك ستزهر نوراً. يقول الشاعر:
"لن يضيء حنينه عتمة الصندوق
وسيجد كفاية من الوقت
كي يسقي بصبر
حقول الصمت الحالكة
بعد أن يسعل آخر الهواء المتبقي
في صدره"
ليس الشعر إلا رمز وصورة وموسيقى، في القصيدة يمتزج الرمز بالصورة بطريقة فذة، وتحفّها الموسيقى الهادئة والحنونة والحزينة والتي تشي بالتحدي باختلاطها باللون والحركة.
يهاجم بطل القصيدة حظه بالحياة ولا يرضى به، أنه على استعداد أن يتخلى عنها للانتقال إلى عالم آخر راضياً مطمئناً. وكما يقول الأستاذ ديوي "ليس للحظ إلا بديل واحد هو الفن". (إشراف روي كاودن. الأديب وصناعته. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بيروت ونيويورك: مكتبة منيمنة بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين. 1962م. ص33)
والحياة في النهاية مستمرة، والذكريات تتراكم فوق بعضها البعض، لذا نرى بطلنا "حنا" لا يروي لنا قصة وحسب، بل هو يقدم تجربته الحياتية الصعبة وما فيها من أحداث وأفكار ووجدان من خلال الشعر، وينطبق على الشاعر حنا قول ديوي: "كل الفن عملية تنحو نحو جعل العالم مكاناً يختلف عما كان عليه، ليعيش فيه الإنسان". (إشراف روي كاودن. مرجع سابق. ص32)
وحسب علم النفس، فأن كل جزء من حياتنا يعلق فيه أثر من ماضينا، فشخصيتنا وأفعالنا اتجاه الحياة تملك شكلها بتأثير مما سبق من حياتنا.
ويبقى الشاعر حنا حيمو يحاول أن يترك الماضي خلف ظهره، ويسير قدماً في الحياة، يحاول أن يصغ فلسفة تجعل الحياة أمراً ممكناً، يبذل جهده ليكون الشاعر الذي قال عنه بول إيلوار: "هو الذي يُلهم (بكسر الهاء) أكثر منه بكثير الذي يٌلهم (بفتحها) للقصائد دائماً هوامش بيضاء كبيرة هوامش صمت كبيرة تنفق فيها نفسها الذاكرة المحتدمة لتعيد خلق هذيان بلا ماضٍ". (جهاد فاضل. مرجع سابق. ص323)
وفي النهاية، يقول الشاعر حنا عن ضربة القصيدة الناجحة إنها: "ضربة النهاية، إذ يجب أن تكون قاصمة وحاسمة، يجب على الشاعر أن يخبئ آخر ضربة لآخر كلمة كي تكون ضربة عميقة في عقل القارئ فيحلق بها".
ولا ريب أنني استمتعت بقراءة شعر حنا، وحملني معه إلى عوالم شتى، وحلق بي عالياً حتى آخر المدى.