قرار إدارة ترامب اختيار 14 أيار/ مايو الذي يصادف الذكرى السبعين لنكبة شعب فلسطين، موعدا لنقل سفارة أميركا في تل أبيب إلى القدس المحتلة، يندرج في سياسة تحدي الولايات المتحدة واستهتارها لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة التي تعتبر الشطر الشرقي من القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، ويشكل هذا القرار استفزازا لمشاعر ملايين العرب المسلمين والمسيحيين الذين يرون القدس قبلتهم الأولى.
لم تتجرأ الإدارة الأمريكية المنحازة لإسرائيل لتحديد موعد نقل السفارة في ذكرى نكبة فلسطين، وقرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتأكيدها على أن المدينة المقدسة إضافة إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين ستكون خارج طاولة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لولا التقصير العربي والإسلامي بالمدينة المقدسة بل والتواطؤ في إتباع سياسة التخلي عنها، واستمرار القيادة الفلسطينية إدارة الظهر لقرارات الإجماع الوطني.
بيدَّ أن الفلسطينيين يتحملون أيضاً جزء كبير من المسؤولية التي حلت بمدينة القدس، عندما وضعها المفاوض الفلسطيني في سلة قضايا الحل النهائي لاتفاق أوسلو استغلتها إسرائيل بمراكمة وخلق وقائع على الأرض اتجاه تهويد القدس وتكثيف الاستيطان وتوسيع نطاقه وتعزيز مواقعها الدولية بإسناد مكشوف من الولايات المتحدة الأمريكية، وتبهيت الالتزام الدولي إزاء حقوق الشعب الفلسطيني، والشروع بفتح بوابات التطبيع العربي والإسلامي، بالمقابل السلطة الفلسطينية والقيادة الرسمية تراوحان مكانهما بإتباع سياسة التلكؤ والانتظار، والمراوحة في المكان وتعطيل قرارات المجلس المركزي دون مراكمة الوقائع على الأرض، بل ما زال الطرف الفلسطيني يراهن على مبادرات لاستعادة التجارب السابقة بنتائجها الكارثية المعروفة، بما يمكنه احتلال موقع في المشروع الأميركي "صفقة القرن"، للحفاظ على ما راكمه من مصالح وامتيازات مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية، تاركاً الحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها القدس فريسة للتهويد والاستيطان وسياسات الضم.
الشطر الشرقي لمدينة القدس، تتسارع فيها عملية تهويد أحياء الشيخ جراح وسلوان ومحيط البلدة القديمة لتضييق الخناق الاستيطاني حول الحرم القدسي الشريف، في الوقت الذي تتواصل فيه مداهمات المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك وإقامة لجنة للتباحث في مسار جديد لفرض الضرائب العقارية على الكنائس المقدسية بعد تجميد قرار فرض الضريبة العقارية ضريبة المسقفات "الأرنونا" وفرض الحجز على هذه الأملاك، إلى جانب الدفع باقتراح قانون يسهل مصادرة أملاك في الشطر الغربي للقدس، كانت الكنيسة قد قامت بتأجيرها لمدة 99 عاما.
المفاوض الفلسطيني أدار ظهره لعناصر الإجماع الوطني بعدم تطبيقه قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في يناير 2018 وسابقتها في مارس 2015، والتي كان من أهم قراراته سحب الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني ووقف تبعية وارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، كما حصل مؤخراً في لقاء وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرا بنظيره الفلسطيني علام موسى في إطار المؤتمر الدولي للاتصالات في برشلونة، وكذلك الحال لقاء وزيرة الاقتصاد الفلسطينية بنظيرها الإسرائيلي في باريس، ولقاء منسق الإدارة المدنية للاحتلال يواف مردخاي برئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله في مقر المقاطعة برام الله لتطوير آليات التعاون الاقتصادي والمالي بين الجانبين.
لم يعي المفاوض الفلسطيني أن اتفاق أوسلو من أساسه كان الخيار الأسوأ للحقوق الوطنية الفلسطينية في غلق الأبواب أمامها بتأجيل المفاوضات حول قضايا (القدس، اللاجئون، الحدود، المستوطنات، المياه) إلى مفاوضات الوضع الدائم، وحوّل الضفة الغربية والقدس المحتلة وقطاع غزة من أراضي محتلة بحكم قرارات الشرعية الدولية إلى أراضي متنازع عليها، أعطى شرعية لإسرائيل الهيمنة عليها بالاستيطان والمصادرة والتهويد.
للأسف اتفاق أوسلو وإملاءاته قيّد الفلسطينيون لربع قرن على المطالبة بحقوقهم بالتزام القيادة الفلسطينية المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها بالمفاوضات كخيار وحيد والتخلي عن كل عناصر القوة الفلسطينية بوقف كافة أشكال المقاومة ضد الاحتلال وقمع الانتفاضة بدلا من تطويرها نحو انتفاضة شعبية شاملة على طريق العصيان الوطني الشامل، بل واستمر الطرف الفلسطيني التزامه بالتنسيق الأمني على أعلى المستويات مع إسرائيل وبالتبعية للاقتصاد الإسرائيلي.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس اعترف على أكثر من منبر محلي وأممي، الذي كان آخره في مجلس الأمن في (20/2/2018) أن السلطة تسلمت مفاتيحها من الاحتلال ويجب إعادتها ولا يمكن القبول بالوضع على ما هو عليه، وان الحالة الفلسطينية أصبحت سلطة بلا سلطة، ودولة بلا سيادة والاحتلال بلا كلفة. وربما نسمع بعض الأصوات المنادية بحل السلطة لأنها من إفرازات اتفاق أوسلو اللعين، والقبول بتضييع ربع قرن من عمر الشعب الفلسطيني بالبحث عن إستراتيجية جديدة وتجريبها، دون وعي أنه بالإمكان الاستفادة من السلطة القائمة بتغيير وظيفتها وعقيدتها بالتحرر من تبعات اتفاق أوسلو إلى سلطة تعزز صمود الشعب وتنمي قدراته في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العنصرية ونزع الشرعية عن إسرائيل.
ألم يحن الوقت، للشروع بخطوات عملية ميدانية في إطار الإستراتيجية الوطنية الكفاحية السياسية للتصدي للسياسات الأمريكية والإسرائيلية المعادية للحقوق الوطنية الفلسطينية، أهم عناصرها بناء وتعزيز الوحدة الوطنية على أسس متينة وتشاركية، والبدء بفك الارتباط باتفاق أوسلو والتزاماته السياسية (سحب الاعتراف بإسرائيل) والأمنية (وقف التنسيق الأمني) والاقتصادية (فك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي)، لصالح استئناف الانتفاضة والمقاومة وحمايتها، نحو انتفاضة ومقاومة شعبية شاملة على طريق التحول إلى عصيان وطني شامل، والإسراع بتشكيل المرجعية الوطنية الموحدة والائتلافية لمدينة القدس وتسليحها ببرنامج صمود للشعب في وجه الاحتلال والحصار وبموازنات مالية ترتقي إلى مستوى المعركة ومتطلباتها، ونقل قضية القدس وكافة جرائم الحرب الإسرائيلية إلى محكمة الجنايات الدولية في شكاوى نافذة مع طلب الحماية الدولية لشعبنا وقدسنا وأرضنا ضد الاحتلال والاستيطان.
ألم يحن الوقت، لوقف الإجراءات العقابية على قطاع غزة المحاصر وتحمّل حكومة التوافق الوطني مسؤولياتها وواجباتها كاملة لانتشال غزة من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، وإنقاذها من براثن الفقر والبطالة والموت البطيء.
ألم يحن الوقت، لتنشيط الحراك السياسي والدبلوماسي الفلسطيني في العالم عبر السفارات والجاليات الفلسطينية وتحرر وزارة الخارجية الفلسطينية من أدائها البيروقراطي وتوفير متطلبات تطوير عمل دائرة شؤون المغتربين، والعمل على تفعيل دائرة شؤون اللاجئين في رعاية قضايا المخيمات، وإسناد وكالة الغوث والدفاع عن وجودها ومصادر تمويلها، ورفض الحلول البديلة، والتمسك بالقرار 194 كمرجعية للحل دون ربطه بأية استدراكات لا تخدم حق العودة إلى الديار والممتلكات.