"ماذا تريدين .. ابكي أمام الكاميرا وقولي أريد أمي". هكذا تسابق الغرباء لاقتناص دمعة الطفلة الغزية إنعام العطار وأمام من تسلق الكاميرات ظناَ منه بأن ذاك الوجع قد يثير استعطاف المسؤولين والعابرين من أمام قضية إنعام، وكأن المشاعر قد أضحت في عالمنا اليوم وليدة الضغط على "زناد" الكاميرا. " ابكي ... ابكي يا إنعام".
نسترق النظر إلى تلك الغرفة الصغيرة بمسشتفى رام الله الحكومي، حيث ترقد الحكاية التي خُطت تفاصيلها منذ 13 عاماَ، أي منذ ولادة الطفلة إنعام، حينما أضحت رهينة الفشل الكلوي وحتى هذه اللحظة، وما تحلم به كلية سليمة تعيدها منتصرة من تلك المعركة، التي حدد مسارها كلا من وزارة الصحة، وقانون نقل وزراعة الأعضاء البشرية وجبروت احتلال يتغذى على عتمة الألم حيث رفض مرافقة الأم لابنتها في رحلة العلاج، واكتفي باصدار تصريح للمتبرع أي "الخال".
لم تمكنا المسافات من رصد لحظة خروج إنعام من منزلها في غزة للانتقال إلى رام الله لاجراء الفحوصات اللازمة ايذاناَ بزراعة الكلية لها، تلك الكلية التي تعود لـ "خالها" المزارع، حيث لا منفذ آخر، فيما يعاني أقرباؤها من أمراض صحية قد أفقدتهم القدرة على التبرع.
في ذات الغرفة أيضا، حيث الاكتظاظ، ومراسم ترحيل مشاعر الطفلة جانباً واغتنام الفرص لتحقيق سبق صحفي أو مشاركة تسبقها لهفة اعجاب (لايك) وعلى صفحات موقع "فيس بوك"، والتي تحتفظ بأسماء أبناء أرض قد أسميتها سابقاً " بلد الشبابيك"، حيث لا توصد النوافذ أمام حكايات أهالي البلدات والمدن.
عيونها خضراء وشعرها أشقر وملامحها كلاسيكة حتى أن ضحكتها قد تنير عتمة قطاع غزة بعد 11 سنة من الحصار، تلك الملامح قد أعادتني إلى زمن بعيد حيث كنت أتربص المارة في ذاك الحي القديم في القطاع واتساءل : " لماذا سكان المنطقة شعرهم أشقر وعيونهم خضراء؟"
عند موعد الزيارة، تكالبت الأقدام وتسارع ايقاع الوقت للقاء تلك الطفلة التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي... أين هي؟ نريد التقاط صورة معها؟ هكذا قال أحد المارون بقربي ..وهو يمسك كراسة جامعية، فيما أخطأ الظن بأن تلك الصورة سوف تذهب ملامح الوجع وتنقذ ما تبقى من حياتها.
قال أحدهم وهو يهاتف صديقه الذي يجاوره اللحظة عبر الهاتف الذكي ويتساءل: " نريد صاحبة الصورة المنشورة ..ما اسمها؟" أجبت : إنعام.
كم من صورة التقطت في تلك اللحظة؟ وكم من دمعة قد سرقها أحدهم قسراً من عيني إنعام وهي تقول بألم : أريد أمي".
لم أجلب لها دمية شقراء تشبهها، ولم أقبل جبينها بعد، واكتفيت برصد كلمات وردود أفعال بعض الزائرين لها ومن يوثق تلك اللحظة عبر هاتفه الذكي، وكأن ذاك المتحكم برغباتنا وأهوائنا قد أفقدنا متعة المشاركة والاستمتاع بالألم كما الفرح، فالمشاعر أصبحت رهن شاشة قد تكلفنا ملبغاَ وقدره.
تلك اللحظة المحشوة بالمشاعر الإلكترونية قد أفقدت الطفلة إنعام متعة اللجوء للذكريات، حيث تُسرد الحكايات الجميلة ما قبل النوم، واليوم هي تغفو في سريرها داخل المستشفى دون أن تبحث مع والدتها عن حذاء ساندريلا في أحدى قصص الخيال، ودون أن تداعب ذقن والدها قبل غفوتها.
" احضروا لي والدتي .." هو نداء المسافر في المحطة الأخيرة. فهل سيلبى النداء؟