الحدث- رام الله
هل ما زالت فلسطين لنا؟ وهل ما زلنا نحتفظ بفلسطينيتنا؟ ويتبع السؤالين سؤال كبير جداً وتحته ألف خط أحمر: هل ما زلنا عربا أو مؤمنين؟
سترد قطاعات واسعة مستنكرةً هذا التساؤل بقولها: نعم، وما زلنا نناضل على أرضنا، ونواجه أعداءنا بكل الوسائل المتاحة.
وهنا أضع ألف خط أحمر على (نواجه أعداءنا بكل الوسائل المتاحة)، لأنها تحمل ذبولاً وطنياً وخنوعا أقرب إلى الهزيمة والقبول بالأمر الواقع، وحتى لا أراوغ أقول: ما هكذا يكون النضال، وما هكذا تكون المواجهة، وهو كلام يشمل شطري (الوطن).
أكثر من سبعين عاما مرت ولم نعرف ماذا نريد، ولم نضع إستراتيجية للنضال، ولم نبتكر وسائل للمواجهة، ولم نحدّد خطابنا الأيديولوجي ولا الديني ولا المجتمعي، بل ولم نضع إستراتيجية اقتصادية تسد رمق الفقراء الكثر في فلسطين. على العكس تماماً، وضعنا أنفسنا تحت تصرف دول كثيرة، وأجهزة استخبارات أكثر، ومِلنا نحو الجهة التي تموّلنا، وتقلّبنا كثيرا كما تتقلب الغانيات، وبعد (العودة) إلى الوطن، اجتاحنا شعور أننا حققنا الاستقلال، فاستسلمنا لواقع سخيف وهزيل، وضحكنا على أنفسنا في الخفاء بينما ضحك علينا الآخرون جهراً، وكل ما حدث بعد (العودة) هو إدخال 15 ألف مقاتل ليكونوا مكشوفي الظهور أمام أعدائهم، وفي تعبير مباشر، هم أسرى وإن كانوا يتحركون خارج قضبان السجون؛ إذ ماذا يفعل الشرطي الفلسطيني حين تهجم قطعان المستوطنين على كرم زيتون وتعيث فيه فساداً؟ وماذا تفعل الشرطة الفلسطينية وأجهزة الأمن حين يقتحم جيش الاحتلال القذر بيوت الفلسطينيين ويعتقل الشباب ويدوس على كرامة النساء والشيوخ ويذل الأطفال؟ في الواقع، لا يفعل شيئا، يدخل افراد الشرطة إلى مراكزهم، ويتوارى رجال الأمن عن الأنظار حتى يغيب جنود الاحتلال، ثم يخرجون لتنظيم السير في الطرقات، كأن حاجتنا للشرطة تكمن في تطبيق قانون المرور وحراسة الشخصيات!!
هل نحن مصابون بهذه الدرجة المقيتة من الخواء، حتى يكون الشعب في واد، والقادة في واد، وحتى يخرج الشباب بصدورهم العارية بينما السياسيون يتحدثون في الهواتف النقالة والثابتة والخطوط الساخنة مع قادة الاحتلال؟ وهل اصبح شعبنا رخيصاً إلى درجة الموت في الطرقات والحافلات والمدارس، بالحرق والشنق والبقر والطعن؟ يحدث هنا، ولا يزال الشعب يصفّق كلما اعتلى أحد (القادة) المنبر، وكان قبل ساعتين أمام المرآة يختار البدلة والقميص وربطة العنق والعطر والحذاء اللامع، ثم يخرج وسط حراسة مشدّدة، وبالمناسبة، لو حسبنا عدد الشباب الذين يرافقون (القيادات) لوجدنا أن أعدادهم تتجاوز الآلاف، وهؤلاء قوة عمل معطلة، لأنهم يحرسون شخصيات عاطلة عن العمل والأمل معاً.
يصر هؤلاء (القادة) على إقناعنا يوماً بعد يوم أن القضية الفلسطينية صعبة للغاية! ومعقدة جدا في ظل الظروف العالمية المتشابكة، وأن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية عند العرب، وأن العالم كله يساند الأعداء، وعلى رأس هذا العالم راعي السلام (الولايات المتحدة الأمريكية)، وعلى الرغم من ذلك، نضع (كل بيضنا) في سلة هذه الولايات!!
ويريد هؤلاء القادة إقناعنا أن القضية الفلسطينية أحجية مغلقة، وعلينا القبول بأقل القليل، بل بأقل من هذا القليل، حتى نصل إلى درجة القبول بالوهم، ويراهنون كما يراهن الأعداء، على الزمن، الكفيل بأن ينسي الناس وطنهم، والأجيال حقوقها.
إذن، مبارك لكم، الناس لم ينسوا أوطانهم، إلا أنهم يفتشون عن بلاد أخرى يعيشون فيها بكرامة، ونسبة كبيرة منهم على استعداد للرحيل عن هذا الوطن، الذي ربطموه بالمقدسات، وتحول إلى قبة مسجد وضوء مئذنة وجرس كنيسة، مع كل الاحترام لما ذكرت. وأنتم تعلمون أن نسبة كبيرة تبحث عن فرص عمل خارج هذا (الوطن)، الذي سيأتي يوم لن تجدوا فيه أحداً سواكم، عندئذ، ستقررون الرحيل إلى البلدان التي تحملون جوازات سفرها (95% من القيادات يحملون جوازات سفر غير فلسطينية، إضافة إلى جواز سفر السلطة).
القضية بسيطة جداً، أمامكم شعب مستعد للتضحية، وتعرفون كيف تهيجونه بخطبكم الرنانة، ولكن هذا الشعب، يريد أن يراكم في مقدمة المظاهرات والمصادمات، ويريد أن يرى دماءكم ودماء أبنائكم تعانق دماء البسطاء والفقراء والمساكين، ودون ذلك لن يلبي طلباتكم في وقت قادم.
القضية بسيطة جدا، ولا تحتاج إلى كل هذا الجدل والتصريحات والمفاوضات والتنازلات والتخاذلات؛ هنا وطن اسمه فلسطين، إما أن يكون لنا أو يكون لأعدائنا! ولا تتسع هذه البقعة الجغرافية لاثنين. والآن، وفي هذه اللحظة بالذات، سيقول أحد الثرثارين المنظرين: هذا الكاتب لا يعرف ما يدور حولنا. وأنا أقول إن ما يدور حولنا عدو واضح المعالم والخطط والأهداف والإستراتيجيات، وبدلا من هذا الجدل العقيم الكريه المقرف، فكروا بكيفية المواجهة، وأمامكم هذا الواقع: فشلتم في الثورة المسلحة، وفشلتم في المفاوضات، وفشلتم في إدارة البلاد بالعدل والمساواة، وتفشلون كل يوم، وما عليكم سوى ابتكار اساليب المواجهة، تلك الأساليب التي لا تخطر على بال العدو، الذي بات مطمئنا لجهلكم في مواجهته، ولهذا عليكم الانطلاق من الفشل نحو العمل.
ابتعدوا عن المشهد قليلا، وانظروا إلى فلسطين وما يحدث فيها وما فعلتم بها، وستبكون إن كنتم صادقين، وستلعنون أنفسكم إن كنتم فلسطينيين حقيقيين، لكنكم بعد ذلك ستبتكرون أسلوبا جديداً للنضال والمواجهة.
الشعب الفلسطيني يريد أن يستعيد كرامته منكم قبل أن يستردها من عدوه، ويريد أن يسترجع فلسطين من عيونكم ورئاتكم قبل أن يسترجعها من المحتل. فحين تبتعدون عن المشهد ستدركون أن جدار الفصل الحقيقي ليس ذاك الجدار الذي بناه الإسرائيليون والتجار الفلسطينيون، ويفصل بين الأراضي الفلسطينية والأراضي المحتلة، وإنما الجدار الحقيقي هو الذي يفصل بينكم وبين شعبكم، وبين خياراتكم وخياراته، وبين طموحاتكم وطموحاته.
قد يغذي هذا الجدار أمراً ما في نفوسكم، على أساس أنكم النخبة ومن علية القوم ولستم من العامة، لكنه سيجعلكم غرباء، والغربة أشد من القتل.
للإجابة على السؤال الذي بدأنا به نقول: فلسطين ما زالت للفلسطينيين الذين لا يرونها مجرد كوفية وأغنية ودبكة وبدل مهمة وسفر ورحلة سياحية منها وإليها.