ما هو الانطباع الذي ينشأ لدى من يتابع حوارات المصالحة الفلسطينيَّة وفي جولاتها الكثيرة التي باتت لا تُعدُّ ولا تُحصى في محطَّاتٍ زمنيَّة عبر عَشْرِ سنواتٍ عِجَافٍ على الأقل، مُوَزَّعةً في عواصم وقواصم عربيَّة عديدة على مساحَةٍ جغرافيَّة تمتد من اليمن مرورًا بمكَّة وصولاً إلى القاهرة؟! فكانت تلك الحوارات وكأنَّها تجري وفق إيقاع، خطوة واحدة إلى الأمام وفي مقابلها خطوة إلى الوراء؛ بحيث لم تقطع تلك الخطوات مسافةً حقيقيَّة في مسارِ الوصول إلى محطَّةِ مغادرة مربَّع الانقسام بمضامينه المُفْعَمة بالاتِّهامات المتبادَلة؛ وبحيث لم يُبْنى عليها شيء تقريبًا في الحاصل النِّهائي سوى المضي أكثر في تعميق الانقسام. وفي نقاش هذه المسألة، دَعُونا من كلِّ التَّفاصيل وما فيها من شياطين!!
إنَّ أوَّل تلك لانطباعات -ووفق ما يَشي به الجدل العلني والتَّراشق الإعلامي الذي يُرافِقُ كل جولة منها- هو أنَّ تلك الحوارات تتركَّز حول تقاسم السُّلطة بين الفصيلَيْنِ الشَّقيقَيْنِ اللَّدوديَن، كأوليَّةٍ تعلو على ما سواها، وحول الاتفاق على ترتيبات إدارة قطاع غزَّة المُحاصر كدياسبورا فلسطينيَّة معزولة داخل حدود الوطن وجهها إلى السِّياج وظهرها إلى البحر. وهذا لا يعني أبدًا التقليل من أهميَّة معالجة كثير من القضايا المعيشيَّة، التي تمسُّ جوهر حياة قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني، ولا يعني أبدًا التَّقليل من أهميَّة معالجة الأزمة الإنسانيَّة في قطاع غزَّة على وجه الخصوص.
لكن، ما يُلاحظه الجمهور الَّذي لا تهمه كثيرٌ من التَّفاصيل إضافةً إلى المراقبين المهتمِّين بالتَّفاصيل التي تكمن فيها كل الشَّياطين، هو أنَّ الخلافَ على تحديد الأوزان النسبيَّة والفعليَّة والمعياريَّة لكلا الطّرَفَيْنِ هو من يُفجِّرُ فرص الاتِّفاق، ويُغلق أبواب الحوار، بغضِّ النَّظر عن الإجماع حول القضايا الوطنيَّة الأساسيَّة؛ وهو ما يُعطي انطباعًا آخر أشدُّ فداحَةً من الأوَّل؛ إذْ يَشي هو الآخر بحقيقةِ أنَّ الاتِّفاق حول الإجراءَات التفصيليَّة لتقاسم مزايا سلطة الحكم الإداري الذَّاتي المحدود أهم بكثير في الحاصل العام للحوارات، من مواجهة حقائق المأزق الوطني، والتَّحدِّيات الجديَّة التي تواجه مستقبل القضيَّة الفلسطينيَّة؛ التي باتت ومنذ وقتٍ طويل خارج جدول الأعمال الإقليمي والدَّولي، وخارج جدول الأعمال السياسي والاجتماعي الإسرائيلي، وإنْ بقيت بعض مظاهرها وبين فترة وأخرى حاضِرَةً على شاشات الفضائيَّات العربيَّة موسِميًّا وفي مناسباتٍ محدودة يفرضها مشهد الميدان، الَّذي تُحْسِنُ إسرائيل استثمار تحويله إلى فرص جديدة لصالحها، فيما لا يُفلِحُ أحد من الفلسطينيين في استثماره سياسيًّا؛ وحيث تبقى معطياته معزولة سياسيًّا دون مفاعيل أو حاصل تراكمي منهجي يُمكِنُ أنْ يُبنى عليه نتائج سياسيَّة على أرض الواقع.
صحيحٌ أنَّه من السَّهل توجيه الانتقادات لهذا الطَّرف أو ذاك –سيقول المجادِلون- أو توجيه الانتقاد واللَّوم لمسارات الحوارات الفلسطينيَّة العقيمة حتَّى الآن لجهة الخروج بنتائج نهائيَّة تضعُ حدًّا لكلِّ هذا السِّجال والاتِّهامات المُتبادلة أو الإيحاء باللَّائمة من كَلِّ طَرَفٍ تجاه الآخر. لكن، هذه المجادلة بالمُجمل ذرائعيَّة بحدِّ ذاتِها؛ وهي محاولة لتكريس المنطق الأبَوِي الاحتكاري في إدارة الأزمات والمشاكل، وبالتَّالي التَّنصُّل من المسؤوليَّات الحقيقيَّة الأخلاقيَّة والوطنيَّة.
وبهذا المنطق الأبَوي، بالمناسبة، تمَّت قيادة الشعب الفلسطيني، ومحاولة التَّصدي للتحديَّات التي فرضها المشروع الصهيوني ابتداءً من عشرينيَّات القرن الماضي، وقبل محطَّة النَّكبة الكبرى عام 48، وحتَّى اليوم، عبر الوجهاء والأعيان الذين كانوا على الدَّوام مُنقَسِمين على أنفسهم، ويتنازعون زعامة الجماهير، وعبر الأحزاب والحركات التي كانت تقدِّم برامجها الحزبيَّة وأجندات جداول أعمالها الدَّاخليَّة وأولويَّة الظَّفَر بالجماهيريَّة والشُّهرة وبالمُريدين والأتباع على حساب القضايا الوطنيَة الكبرى.
وهذا المنطق الأبوي قد يقبل النَّقد الكلامي والإعلامي، لكنَّه لا يحتمل كل ما يتعلَّق بزعزعة امتيازاته وبتغيير مركزه الاعتباري. وهو يستند إلى توليفة من الأعذار لا تقبل بمنطق القيادة الجماعيَّة المؤسَّساتيَّة منهجيًّا وفعليًّا. كما أنَّ هذا المنطق الأبوي يفترض دائمًا أنَّ مُعتَقَدَهُ ونظامه الأخلاقي هو الأجدر، وأنَّ ادِّعاء الرُّشد ميّزة احتكاريَّة له وحده؛ فالآخرون يُسيئون التَّقدير لا يُحسِنون التَّصَرُّف؛ لأنَّهم ببساطة أقل معرفة بتاريخه المُتفرِّد، ولا يُدركون ما يدركه هو على نحوٍ تاريخيٍّ مُعْجِز، وهم لا يعرفون التفاصيل، وما فيها من شياطين كثيرة، ولا يعرفون كيفَ تؤكَلُ الكَتِف في المحافل الدبلوماسيَّة والدَّوليَّة، ولا كيف تُجمع الغنائم!!
بالإجمال، فإنَّ استمرار المناكفات والتَّراشُقات الإعلاميَّة التي تواكب حوارات المصالحة وحول تفاصيل هامشيَّة وغير ضروريَّة؛ هو ما يُسْهِمُ في إفراغ هذه الحوارات من مضامينها الحقيقيَّة؛ وهو ما يُعطي الانطباع دائمًا كأنَّها حوارات تجري حول اقتسام غنائم، تركها عمدًا وزُهدًا بها- جيشٌ مُنتصرٌ من الأعداءِ خَسروا أمامه معاركِهَمْ!!