كلّ عام، نشارك جميعًا في ترويج النفاق القائم على فرضية الشراكة بين المرأة والرجل في المجتمع الفلسطيني وفي سيرة النضال الطويلة للشعب الفلسطيني. كلّ عام، نتحدث في العموميات ونلعن الاحتلال كما يجب لكننا نتجنب الأسئلة التي تتناول الواقع الذي لا دور للاحتلال فيه ولا عائق فيه أمام التطوير سوى انعدام الإرادة. المرأة نصف المجتمع، لكنها تشكِّل أقلَّ من ثلث القوى العاملة وتتقاضى رواتبَ أقلَّ من زملائها الرجال، ولا تصل إلى المراتب العليا الوظيفية إلا بشق الأنفس. المرأة نصف المجتمع، لكن القانون يتعامل معها باعتبارها قاصرًا. المجتمع الذي لا يتوقف عن مديح صمود المرأة وصبرها لا يزال يقبل على نفسه التصويت لقائمة انتخابية تحجب صور المرشحات ويقبل استمرار قانون يجيز زواج القاصرات ويتعامل مع حقوق المرأة الأساسية بمنطق الاستثناءات.
المرأة الفلسطينية حملت شعلة الثورة على جناحيها المثقلين بِهَمِّ الوطن وأبنائه الأحرار والأكثر حرية، وحلقت بهم عاليًا في فضاء الكرامة. لكنها وبعد مئة عام من التحليق محرومة من حقّها في المساواة والشراكة في صنع القرار والمصير، لا بل محرومة مما هو أبسط من ذلك بكثير. وبالرغم من تقدم واقع المرأة الفلسطينية عن واقع نظيراتها في المحيط العربي بشكل عام، إلا أنَّ من يستعملون هذه المقاربة يغفلون أنَّ المرأة الفلسطينية ليست كنظيراتها في المنطقة بحكم تجربتها وتضحياتها ونضالاتها على درب الخلاص الوطني نحو الحرية. هؤلاء يصرّون أيضًا على التعامل مع النساء باعتبارهن شريحة من المستضعفين اللواتي يمنّ عليهن المجتمع بحقوق هنا، وحصص هناك، وبيانات وشعارات ما بينهما. ويتعزز هذا الواقع بقصد أو دون قصد من خلال التعامل مع الشأن النسوي كما يسمى وكأنه منفصل عن الشأن العام والهم الجامع للوطن على اختلاف مشاربه؛ الحرية.
الوطن مزدحم بالندوات وورشات العمل، حيث تلقى الخطابات، ويحتدم النقاش عن "الجندر" أو "الشأن النسوي" وضرورة إشراك المرأة واحترامها إلخ إلخ إلخ. اللافت في حالة الـ"إلخ" المزمنة هذه أنّها تحدث في الغالبية الساحقة من الأوقات بين النساء وحدهن، وكأنَّ حقوق المرأة الأساسية والإنسانية شأن لا يعني سوى النساء. وبنظرة سريعة على المواقع والمناصب المعنية بحقوق المرأة، تجد أنَّ الغالبية الساحقة هنَّ من النساء، بينما يكتفي معظم الرجال بمناصرة حقوق المرأة باعتباره التصرف الحضاري المنتظر والموقف التقدمي المطلوب.
المرأة ليست بحاجة ليوم عطلة إضافي أو خطاب إعلامي آخر. المرأة الفلسطينية بحاجة للتحرر من معادلة فصلت قضيتها عن قضية الوطن، وقيّدت أولوياتها بانشغالات صناع القرار من غيرها بهموم كثيرة مثل الانقسام ومواجهة ترامب والعملية السياسية وغيرها من القضايا التي تؤثر على المرأة أكثر من غيرها من المواطنين. في هذه المعادلة، ننشغل بظاهر الأمور بدل باطنها، فنطالب بتمثيل نسوي يصل إلى الثلث في الهيئات المنتخبة وغيرها دون أن نُسائِل صناع القرار عن دور المرأة في هذه الهيئات وحقِّها في الشراكة في صنع القرار. ننهمك في التحضير لكراسات ومدونات عن احترام "النوع الاجتماعي" دون أن ندرك كم بعيدًا هو هذا المصطلح عن واقع تعيش فيه غالبية النساء داخل المنازل وبمعزل عن عجلة الحياة العامة والاقتصادية والإنتاجية. نرحب بالمواقف التقدمية للسياسيين وبعض الأحزاب دون أن نسائلهم عن عدد النساء في دوائر صنع القرار التنظيمي العليا، أو أن نحاسبهم عن التقاعس في صنع ما يلزم من قرارات لإحداث الواقع الذي يصرحون بضرورة خلقه.
المرأة ليست حيوانًا نادرًا مهددًا بالانقراض تحتاج الرفق والرعاية والمعاملة التفضيلية. المرأة الفلسطينية يجب أن تكون مواطنة كاملة الحقوق والواجبات في مجتمع يعدّ أنَّ حريتها وضمان حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية جزء لا يتجزأ من حرية الوطن، لا بل هو شرط من شروط حريته. حقوق المرأة هي جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان، التي ترفض التمييز بين الناس على أيِّ أساس وترفض وصاية شريحة من المجتمع على عقول وحياة شريحة أخرى مهما كانت المسوّغات. مجتمع يعاني نصفه من التهميش الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكن إلا أن يكون مجتمعًا مأزومًا، مجتمع يقبل بتعطيل نصف طاقاته لا يمكن أن يرتقي بأدائه ومكانته بين الأمم.
تعديل منظومة القوانين الفلسطينية بما ينسجم مع هذا المفهوم للمواطنة والشراكة التزام قانوني وأخلاقي وهو استحقاق طال انتظاره. في هذا السياق، لا يجب أن يكون تعديل اجرائي هنا وإداري هناك محل ترحيب يقفز عما هو أهم وهو تحقيق الانسجام بين المواثيق الدولية ذات الصلة بمنظومة الحقوق المدنية والإنسانية التي انضمت لها فلسطين دون تحفظ والمنظومة القانونية والاجتماعية الفلسطينية.
لا يجب أن يكون سقف مطالب المجتمع محدوداً بحق المرأة في فتح حساب بنكي لأولادها أو استصدار جواز سفر لهم. المطلوب هو تعديل القوانين والمفاهيم وترجمة النصوص إلى واقع يعايشه ويتبناه المجتمع على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والفرص. وبعيداً عن الشعارات والخطابات والحديث في العموميات، لا يبقى سوى القول إن المرأة "هلا وقتها"؛ عدلوا القوانين حتى نبدأ الفصل الأهم في مسيرتنا نحو الحرية كشركاء فعليين ومتساويين.