إذا كان فساد الحياة السياسية شمل كل الأحزاب بلا استثناء واضعف هياكلها وبرامجها وكوادرها، بل ونال من صدقية خطابها السياسي، فلا بد أن نعترف أن المجتمع برمته دخل ذات النفق من ذات الباب، ربما تطبيقا حرفيا لمقولة: "إن الناس على دين ملوكهم".
فإن الشاعر الفرنسي "بول فاليري"، لم يكن على صواب حينما قال: "إن التاريخ عِلم الأشياء التي لا تتكرر".. كان عليه أن يتأمل طويلا في وجهة نظر الكاتب الانجليزي "ألدوس هكسلي" الذي أكد مرارا وتكراراً: "أن أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من دروس التاريخ".، وكيف يستفيدون وهم يمارسون كل طقوس التوثين وعبادة الأفكار الفضفاضة، إلى أن أصبحوا من أصحاب موقف أللا موقف.
ولكى نفهم الأمر فهماً حقيقياً تعالوا لنعيد قراءة ما كتبناه قبل أعوام وهو يتكرر وكأننا أمام مشهد سينمائي فاشل، كلما انتهى اعدنا النظر فيه علنا نجد شيئاً مختلفاً عما دوناه في العام 2012 ونحن نقول:
إن الوشوشة كالصراخ، وجهان لعملة واحدة هي العجز..! لربما هو عجز مركب، اجتماعي، سياسي، ثقافي لا أحد يدري تماماً فصيلة دمه، ولكنه عجز لا يخطئ تشكيل صيغ الصمت المتعددة، صمت كامن، وآخر متحرك، وثالث لا يدرك إن كان بالإمكان أن يحظى بالأمان، أم أن الأخير هذا ظاهرةٌ مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بقدرٍ من « الكياسة ــ إن أردنا تجميل تعريفها، التي هي بلغة الوقاحة جبن ونفاق.
ولكن ماذا لو تحدثنا بلغة يعتريها بعض تعادل بين الكياسة والتياسة، فخربشنا شيئاً من تفاصيل الوجع في سياق تلك الصيغ التي تجسد صورتنا المُستقرة على جدار الصمت، علَّ الريح تكف عن ملاحقة الطير في السماء، أو محاولة فصل الموج عن البحر.
فإن حالة الفراغ التي نحياها على كافة الصعد والمستويات، التي تشبه حالة الاستقرار القلق، باتت وكأنها درب من الهذيان على تخوم الحلم العاجز عن التحقق.. هنا صراخ غير فاعل في حالة الانقسام، وهناك وشوشة عجائز متهمة بقتل الوقت.. صمت على التعثر السياسي، وآخر على الاقتصادي، وثالث على الفوضى المرتدية ثياب الحرية، ورابع وخامس وعاشر على جنون الاسعار، وتخيلُ الفرح الملاحق حتى في كوابيس الوجع.
حالة اختلال آلية لا تنتج إلا تنمية غير مستدامة، وعلاقات اجتماعية مشوهة، وقيماً مستباحة، وشارعاً متناقضاً مخطوفاً باستلاب الوعي الجمعي حد التخمة، التي حتما أدت وستؤدي به إلى طريق كل المتناقضات المتشابهات من بذخ وعوز، استقامة وفجور، وصولاً إلى غض الطرف عن فعل الآخر النقيض الموثق بالصور والأصوات والارقام في الخانة العشرية التي سجلناها بانحرافنا عن الدرجة المنفرجة، وكأننا نعيد انتاج أهم مشهد درامي في فيلم "الزمن الباقي" للمخرج الفلسطيني "ايليا سليمان"، وهو يعكس واقع الحال الذي يغني عن المقال، في مشهد من الكوميديا السوداء، يصور بائع الصحف ينادي على صحفه غير المقروءة إلا من العنوان، وبأعلى الصوت المملوء ببعض وشوشات وصراخ في بيت العجز: "الوطن بشيقل، وكل العرب ببلاش".