كل من التحق بالعمل العام،خاصة المواقع القيادية منها، وإن كان متحزباً، عليه أن يرتقي بنفسه و يتسع بفكره إلى ذلك الموقع حتى يكون قادراً على خدمة كل أفراد المجتمع وليس فقط رفاقه أو القريبين منه في الحيز الجغرافي الضيق. هذا مدخل لابد منه عند الحديث عن قطاع غزة.
عملت حكومة الضم الصهيونية ومنذ ما يسبق العام 2000 وبوتيرة متناسقة متصاعدة إلى فصل قطاع غزة ذو الكثافة السكانية العالية عن امتداده الطبيعي في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية، لأن مشروع الضم يقضي بضم الأرض دون أية كثافة سكانية فلسطينية. هذا الفصل وعبر تلك السنوات ومن خلال الحصار والجدران الأمنية ساهم في فصل اجتماعي، اقتصادي والمهم ثقافي، لأهل قطاع غزة عن باقي مكونهم وإرثهم الحضاري الإنساني في أرض فلسطين الواسعة، كما ساهم بتعزيز تشكيل الهوية المناطقية. ومن ثم ساهم الانقسام السياسي غير المغفور له ولا لمقترفيه بتعزيز هذا الفصل.
وفي العودة إلى الخادمين في العمل العام والرسمي، خاصة أولئك ممن تشوهت الرؤية لديهم بفعل طول أمد الاحتلال، وطول أمد الانقسام، أو الحزبية الضيقة، وممن يتلقون رواتبهم لضمان جودة عيشهم من الموازنات العامة، قيادات، وزراء، نواب، ورؤساء هيئات، ليتذكروا جيداً بأن قوت عيشهم وحلال لقمتهم من مدخولات المواطنين، ومنهم الأهل في قطاع غزة.
الارتقاء بالفكر وسعة الرؤية في العمل العام تقتضي عدم وضع الذرائع في المقدمات لتبرير التقصير، سواء ما يتعلق بالتمكين أو تحصيل الموارد، ولكن لاعتبارات المصارحة، فمن يسعى للشراكة والانفتاح والخدمة يراها في الضفة الغربية كما يراها في قطاع غزة، ويراها في وجدان الأهل في الداخل ويستثمر فيها، ولا يتخذ من المسح الأمني ذريعة لوقف التعيين، أو الانفصال عن الحزب للطرد من الوظيفة العمومية، أو الولاء في سبيل انهاء الخصومة الفاجرة.
انهار قطاع غزة فعلاً وليس على وشك الانهيار لنحذر من ذلك، وتكفي زيارة ليوم واحد، أو تتبع أخبار القطاع لمدة خمسة دقائق يومياً لإدراك ذلك، ويجب الإعلان بأن القطاع أصبح منطقة منكوبة بمعنى الكلمة، وبحاجة لتدخل إنساني، اقتصادي واجتماعي عاجل. فدولة الضم الصهيونية دفنت سكان القطاع في التراب حتى أعناقهم، وتركت رؤوسهم خارجه ليتنفسوا، فلا تتحمل وزر موتهم، فلا تتحملوا وزرهم بانقسامكم واجراءاتكم الحزبية الضيقة بالتعفير على وجوههم بخلافاتكم، فصدور أهل غزة ضاقت بالحياة ذرعاً.
ارحموا أهل غزة، ولا تتلاعبوا بالمسؤوليات تهرباً منها، فسُبل عيشهم الكريم مسؤوليتكم مادمتم قبلتم المسؤولية، فادعاءات التمكين والجباية لفرض اجراءات عقابية أو تقليص التحويلات لن تجدي نفعاً مع إنسان يسعى للصمود على أرضه والايمان بقضيته، أو بحد أدنى شرب مياه لائقة بشرياً والاستجمام بكهرباء لمدة اثني عشرة ساعة. كما أن الجدية بالشراكة تقتضي تعزيز الحقوق وممارسة الحريات للأفراد، تقليص السيطرة الحزبية الأمنية والاجتماعية، وفرض الجبايات المالية للحركة وتوزيع الأراضي بغير حق لأعضائها حتى لو عملوا لحكومتها، وتحرير إرث الشعب في "تل السكن" من ضيق بصيرة منتفعين.
ارحموا أهل غزة، فأصبحت مأساتهم الإنسانية أكبر من همهم الوطني، ولا تخرجوا الوطن من صدورهم، وتحملوا مسؤولياتكم اتجاه وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، فسُبل عيشهم ضاقت، خصومات رواتب، بطالة عالية، فُراق أعزاء، فقر وجريمة، قتل وانتحار. فالحصار والإغلاق، الفقر والبطالة مكونات بيئة خصبة للتطرف والعنف وتفكيك المجتمع، وسلخ عن الوطن.
إن كان الاختلاف أسلوباً تقليدياً، فتفكيك أسباب الاختلاف بحاجة لأفكار خلاقة، فخففوا الضيق عن صدور أهل القطاع حتى يكون فيها متسع لحمل إرث وطن إنساني وانتماء هوية.
إن التطورات الاقليمية حولنا، وما تمتلكه الدولة الصهيونية من قوة متعاظمة اليوم، يفرض علينا الوقوف عند مسؤولياتنا والعودة إلى التفاكر وخلق مساحات الحوار احتراماً لحقوق الأفراد الفلسطينيين وكرامتهم، فكل من حولنا يعمل وفقاً لاستراتيجية ومصلحة. ومن لا يقبل الحوار وتحمل المسؤولية كرجل دولة عليه بالتنحي، فلن ترحمه ألسن الضحايا والملكومين، وإلا فليتحمل ما سيكتبه عنه التاريخ، فلم يَعد يكتب التاريخ بأقلام فقهاء السلاطين. علينا أن لا نكون قساة على أنفسنا، فلا تقسوا على أهل غزة، وتستمروا بجزهم في أتون خلافاتكم السياسية، ولنستوعب اختلافاتنا لا أن نتربص لبعضنا ونتهاون بخصومنا. فلنرحم أنفسنا ونُعمل التفاكر والإبداع لمصلحتنا، مازال بيننا حكمة وطاقة للعمل...