غيب الموت الصديق العزيز جمعة الناجي فمن لم يعرف جمعة فاته الكثير، فمنذ أن عرفته في دمشق وأنا أرى فيه المناضل الفلسطيني الحقيقي الصادق والمنسجم مع قناعاته النابعة من وطنية لا تتأثر بالرياح مهما علت، ولا تسرقها الشعارات مهما تلونت.
في عام 1979 كان لقاؤنا الأول، ودار الحديث بيننا حول ما تتعرض له الثورة الفلسطينية من مؤامرات من اليمين، ودور الرجعية العربية في احتوائها، فسمعت منه شرحا وافيا مقنعا ونابعا من حرص راسخ مشوب بتخوف من المستقبل.
وكنت كلما أزور دمشق أحرص على لقائه، وأرتشف معه القهوة، واشفق عليه من سجائره المشتعلة دوما.
وتباعدنا بحكم الشتات إلى أن التقينا في تونس، فرأيته مبتسما لا يضيّع كعادته لحظة دون أن يغوص في الموضوع الوطني ويعطى من الأمثلة الممزوجة بروح الفكاهة؛ كي يرسخ بعض المفاهيم التي لا يجب أن تصدا.
فتونس هي المنفى الجميل الذي منحنا الفسحة الزمنية كي ندرس تجربتنا في لبنان، ونقيّم مرحلة هامة من تاريخ فلسطين، لاسيما والحق يقال بان تونس وشعبها الشقيق منحتنا حرية كافية ووفّرا لنا كل مانحتاجه، كما أن النخب التونسية عبرت عن أصالتها باحتضانها للثورة الفلسطينية، وتفاعلت مع أهدافها باعتبار أن القضية الفلسطينية هي قضية قومية، وللأسف ماتوفر لنا في تونس لم يتوفر لنا في المشرق !
فقد رأى أبو الناجي أن ما يتمتع به المثقفين التونسيين من روح قومية ووعي بمصالح الأمة العربية ينسجم مع قناعاته، فأخذ يعزز علاقاته مع كل مثقفي تونس بصرف النظر عن انتمائهم السياسي، مما جعله شخصية محورية جامعة لألوان الطيف الفكري والسياسي التونسي، يستأنس به الجميع في حوارتهم وندواتهم التى لم يفارقها أبدا.
وعشنا سويا في تونس لسنوات نلتقي مساء في الدائرة السياسية نتحاور ونتجادل إلى ساعة متأخرة كي نخرج سويا سيرا على الأقدام باتجاه "البساج" كي نشتري السجائر.
إلا أن اتفاقية أوسلو فرقتنا من جديد، فعدنا إلى الوطن وبقي جمعة في تونس، وللحقيقة وللتاريخ ؛ فإنه لم يقتنع بهذه الاتفاقية وعبر عن معارضته ورفضه لها، فقد كان متخوفا من نتائجها.
وخلال زيارتي التي لم تنقطع لتونس الشقيقة كنا نلتقي يوميا، وفي زيارتي الأخيرة له هناك أصر أن أرافقه إلى مدينة المنستير، حيث ألقيت محاضرة في المركز الثقافي، حول التطورات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وأثرها على فلسطين.
في حين ألقى هو محاضرة عن ثورات الربيع العربي وتداعياتها، وعدنا إلى تونس العاصمة بعد منتصف الليل.
فرحمك الله يا أبا ناجي، لقد كنت سفيرا لفلسطين في كل المحافل، تؤمن بقدرة الشعوب على النهوض والانتصار على الواقع، ولم تيأس للحظة ولم تفقد البوصلة، بقيت تزرع لأنك تؤمن بأن الغيث آت.
كنت محقا في تقيمك للمحطات السياسية التي مرت بها القضية الفلسطينية، فنم واسترح، بعد أن أديت الرسالة وحفظت الأمانة، ونثرت بذور الحب في أرجاء الوطن وبين أبناء الأمة.