ذاك الببغاء قد غادر قفصه الملون خلسة ليجاور صاحبه في السماء بعد أن اعتاد على حفظ ألقاب بشرية قد تبدو غريبة له وغير مألوفة، غير أنه تسلق أكتافاً قد أثقلها الزمن وحملت بصمت الرحيل، رحيل من شاكسه المرض وألزمه "الصمت" وأجلسه على تلك الكنبة التي يرقد عليها الآن المعزون "الغرباء".
قبل موعد الرحيل، أي الساعة الثالثة فجراً تسلق الموت المؤجل قلب الطفل تيم دويكات لينتشل ما تبقى من أحلامه المخبأة والتي أوصدها ثقل المرض وعلى طوال ست سنوات ماضية إذ تحمل جسده الصغير وبعمر ثماني أشهر أعباء تشنجات عصبية مفاجئة أفقدته لهفة التسابق مع أقرانه للوصول إلى آخر الطريق المعبد، وفي آخر الطريق ذاته رحل تيم دون أن يودع أحد.
هو ذات العمر الذي قضاه تيم في محاولة الهروب من ثكنات عسكرية قد استوطنت جسده حيث لا مفر من تلقيه 40 تشنجاً في اليوم الواحد، ولا يسعه سوى البوح بآلامه وعبر حديث العيون حيث لا يقوى على الحديث حتى أنه لا يهاجر قسراً و عبر شاشة التلفاز كما أقرانه ليحط في عالم يضحكه أو يبكيه.
كان يحدث والدته بصمت دون أن ينطق كلمة "أمي"، وكان يراقب عودة والده بعد يوم عمل شاق دون أن ينادي " أبي". حديثه صامت ورحيله كذلك.
تفرد الطفل تيم فلسطينياً بمرض وصفه الأطباء بـ"النادر"، فقد عصي عليهم اكتشاف مسببات المرض وطرق علاجه، غير أن 15 حالة أخرى مشابه لحالة تيم تنتظر الملاذ والنجاة من المرض، وتيم لم ينتظر أكثر بل رحل مبكراً ولم يحصل على العلاج المناسب له رغم طرق الأبواب واستقبال الوعود الرسمية لعلاجه.
لم تمنع اللغات المختلفة والتي خُطت بها التقارير الطبية الخاصة بالطفل تيم والدته من قراءة ما بين السطور، لاسيما وأن محرك البحث "جوجل" قد أتقن فن ترجمة "الفرنسي، والألماني، وكذلك العبري"، غير أن الأم باتت تدرك لغات العالم بعد الركوض خلف أحرف أجنبيه علها تحمل في مضمونها أملاً بالحياة، ولكنها في ذات الوقت قد عجزت عن ادراك ذاك المرض الذي تنصت على أحلام تيم وأسكنه في حلم ترجل عنه فجأة دون أي سابق انذار. فماذا كان يحلم تيم؟
قالت والدته وهي تجلس أمام المعزين في ذاك البيت الصغير المطل على حكايات أطفال الحي في نابلس : " قلت لهم بأن يداه باردتان... قالو لي الأطباء : يداك أنت ..هو دافئ كما قلبه". وبكت : " مات تيم ...ولم يقل لي بأنه سيذهب".
وأردفت على كتفي، دون أن تزيح نظرها عن غرفته المكتظة بالمعزين، حيث كل شيء في مكانه منذ سنوات حتى ألعابه التي لم يعد يمسك بها : "كيف سأنام بقرب وسادتك دون أن أتنفس رائحتك؟ كيف لي أن اخرج إلى ذاك العالم .. كنت أرقد بقربك وعلى تلك الأريكة وطوال 6 سنوات... قل لي يا تيم ".
ولو كان ينطق تيم، أكان سيحدثها برحيله؟
"
قيل في حضرة الغياب "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء !". وصدق درويش حينما قالها ورددتها من بعده الثكالى. فالموت قد حرر تيم من قساوة المرض فعلياً ولكنه خلف وجعاً قد لا يدركه أحد، هي أمه وحدها من تقف على ناصية الذكريات وتقول : " تيم لماذا تركتني مبكراً ...كنت احاول انقاذك مرة ومرة تلو المرة ...ولكن !".
في حضنها المتعطش لاحتضان تيم مجدداً، يرقد ابنها الأصغر بشير، حيث تفر عيناه هروباً نحو تلك الأريكة "بنفسجية اللون" أي مسكن تيم قبل الرحيل، وذلك بحثاً عن اخيه تيم بين هؤلاء المعزين، وبصوت متلعثم قال وأشار بيديه الصغيرتين : " تيم ..تيم ".
وبحزن لا يفسر ملامحه، قالت الأم وبصوت متقطع: " وين تيم .. تيم حكى باي .. راح تيم ..".
" شهق فجأة ثم ابتسم ..ورحل" . هكذا غادر الطفل تيم دويكات عالمه الصغير، دون أن نعلم بماذا كان يفكر، وبماذا كان يحلم؟ فهل كان يريد أن يصبح طبيباً، أم محامياً، أو معلماً. قد يحلم بصنع طيارة خشبية يقودها بحثاً عن صديقه الببغاء الذي غادر قفصه مبكراً أيضا.
إذا رحل الببغاء وصديقه بصمت مطبق، وما تبقى سوى الأريكة تلك .. فهل ستزول هي الأخرى؟