بينما كنت نائماً في فراشي نهاية صيف العام 2009، وإذا باتصال يرد إلينا من منزل عمي يخبرنا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يسأل عن شاب اسمه محمد غفري يدرس الاعلام في جامعة بيرزيت وقد أخطأوا العنوان بين منزلينا، نتيجة لتشابه الأسماء بيني وبين ابن عمي، وهم في طريقهم إلينا لاعتقالي بعد لحظات.
مرت اللحظات سريعة جداً، لم أعرف خلالها ماذا علي أن أفعل، وكيف علي أن أودع والدتي قبل اقتيادي إلى السجن، وكلها بضع دقائق كان خلالها منزلنا محاصراً بالكامل، وبدء الجنود بطرق الباب.
قبل أن يصل الجنود إلي، كسرت بطاقة هاتفي، وألقيت بها من الشباك إلى داخل المرآب الملاصق لغرفتي، ثم وضعت محلها بطاقة هاتف والدتي.
حيلة لا داعي لها من شاب لم يتجاوز بعد التساعة عشر من عمره، لم تكن لتنطلي على الكابتن رمزي أحد ضباط الشاباك الإسرائيلي، الذي سألني بعد اكتشاف الأمر: "وين شريحة تلفونك؟ اعترف ولا كل الجنود اللي هون راح يكسروك".
تحقيق ميداني وتحت ضغط اخي الأكبر كي لا اتعرض للضرب المبرح، قلت لهم متحدياً بأن البطاقة مكسورة ولن تنفعهم، وعليهم البحث عنها داخل المرآب، وهو ما تكفل به كلب أثر مدرب جيداً على مثل هذه المهمة.
تم اقتيادي إلى تحقيق المسكوبية في القدس المحتلة مدة 45 يوماً أثبت خلالها براءتي من التهم الموجهة لي، وبعد فترة سجن قصيرة أفرج عني، دون أن اهتم يومها لا بالهاتف أبو ضو ولا ببطاقة هاتف والدتي أو حتى بطاقتي المكسورة، لأن الأهم كان بالنسبة إلي هو الحرية.
بعد تسع سنوات وكنت قد نسيت كل هذه الحادثة، جائني طرد أبيض من إسرائيل عبر الوسيط الفلسطيني يذكرني بها. داخل الطرد وجدت هاتفي أبو ضو الذي لن ينفعني اليوم وأنا امتلك أحدث الأجهزة الذكية، ووجدت أيضاً كلتا البطاقتين المكسورة والمنتهية الصلاحية.
إسرائيل بكل هذه الأمانة والدقة في العمل والنظام وارجاعها لممتلكاتي دون نقص أو تغيير، ما زال لدي الكثير من الأشياء الأخرى لم ترجعها إلي بعد.
إسرائيل لم تعد إلي ابن خالتي الشهيد عبد الله كراكرة، الذي عوض علي لسنوات فقد والدي، قبل أن يرتقى هو الاخر برصاصة قناص في رقبته، لا ذنب له إلا أنه كان من أطفال الحجارة.
إسرائيل لم تعد إلي ثلاثة منازل فجرتها مرة واحدة لعائلتي خلال الانتفاضة الأولى، لأصحو على الدنيا مشرداً، أعيش داخل بيت قديم من غرفة واحدة أنا واخوتي الخمسة ووالدتي وجدتي.
لن أتحدث مطولاً عن كل شيء سرقته إسرائيل مني.. عليها أن تعيد إلى شعبي 27000 كيلو متراً مربعاً من مساحة فلسطين التاريخية، وأنا اسامحها بالهاتف والشريحتين.