رجلٌ غير مرئي تمامًا، يدخل إلى قاعة العرض في السينما دون أن يلحظه أحد، يجلس على إحدى الكراسي الفارغة، ويجهز نفسه لبدء الفيلم، لكنّه وقبل أن ينتهي العد التنازلي ما قبل العرض يلحظ فتاة وطفلًا صغيرًا قادمين نحوه، فيقف باحثًا عن كرسي آخر، قبل أن تجلس عليه الفتاة أو أخوها، فيرى خلفه واحدًا لا أحد عليه، لكنّه يضطر للخروج من الصف بأكمله والدخول مرة أخرى إلى الصف خلفه مباشرة ليجلس، في هذه اللحظة تمامًا كان قد نسي أنه غير مرئي، وأنه كان بإمكانه القفز أقل من متر للجلوس.
الفتاة ذات الشعر الأشقر أمامه وعلى يسارها أخوها، بينما هو متوسط المكان بين شابين بدينين يحملان علبتين كبيرتين من الفوشار، يقف مرة أخرى للبحث عن كرسي جديد بعيدٍ عن أيّ كائن بشري، لكن شدة صوت انطلاق الفيلم أقعدته متيبّسًا محدّقًا في كامل ذهوله بما يعرض على الشاشة.
بعد ما يقارب الساعة، انطفأت أجهزة التكييف بلا سبب معيّن، وبدأت الحرارة في القاعة بالازدياد شيئًا فشيئًا، لكنّ الحضور بقوا في أماكنهم، حيث لم يتبقّ أكثر من ثلث ساعة للنهاية، وقد وصلت الإثارة في الفيلم إلى ذروتها، حتى إذا ما مضت عشر دقائق، حبست الأنفاس، وكادت العيون تخرج من محاجرها، وفتحت الأفواه، وكمّم بعضها بالأكفّ، ووضع ما تبقى من الأيادي على الرؤوس، منتظرين رغم الجوّ الخانق، والعرق الذي بلّل الملابس، وفاحت رائحته، منتظرين حدوث ما يرغبون، أن ينظر الجمهور الموجود في الفيلم أو أحدهم إلى الفتى الذي يحاول القفز من أعلى منصّة المسرح الذي تعزف عليه فرقة من خارج البلاد موسيقاها الخاصة، فينقذوه من موته الموشك.
جمهور في القاعة، يتابع جمهورًا في الفيلم، وفتى على حافة الموت، يستعد للقفز، إلا أن اللحظة التي انتهى عليها الفيلم جعلت من الحاضرين في المكانين، أن يقفوا ويصفقوا طويلًا، ولم يشعروا بلهيب كفوفهم، إلا بعد أن مدّوها ليمسحوا دموعهم المنسكبة على وجوههم.
القاعة فارغة، والكراسي فرحة تنتظر إغلاق السينما، لتحضر وحدها الفيلم الذي منعته مؤخرات الناس من مشاهدته، لكنّ كرسيًا واحدًا، واحدًا فقط، في منتصف القاعة، كان يبكي، حتى إذا ما سُئل عن بكائه أجاب: مات رجل البلاستيك يا أصدقاء، لقد انصهر قبل أن يشهد كيف وقف الفتى عند الحافة، ثم ..
صراخ في القاعة: لا تكمل الحديث، ودعنا نشاهد الحدث بأعيننا لا بقولك. صمت الكرسيّ، وضم ظهره إلى قاعدته، كقبرٍ لرجل البلاستيك، الذي كان في ما مضى، مرئيًا.