الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اجمع شتاتك حين تجده خيري حمدان

2018-03-19 07:27:34 PM
اجمع شتاتك حين تجده 
خيري حمدان
خيري حمدان

"ألا ترى أنّ الوقت قد حان لتعيد تشغيل ذاتك؟" أطرح هذا السؤال على نفسي حين أجدني قد أخذت أستيقظ مهمومًا غير قادر على اقتناص تلك الساعات اللذيذة من النوم الهادئ. نعم، أطفأت كلّ محرّكاتي، وحزمت أمري على الهرب من الذات المرتبكة، فقد باتت ثقيلة الظلّ بل ومؤذية، شتّتتني في عقر بيتي، لم تتركني وشأني لأحتسي قهوتي دون جلدي بسياط لا تليق بالعمر الذي أمضيته لتدوين التسامي والألم، وبثّ نفحات من الثقة بالنفس والإيمان بواقع أكثر جاذبية، كلّ هذا وأكثر.

"ألا ترى أنّ الطريق طويلة، والطائرات مكتظّة أيضًا، والمطارات مزعجة والانتظار قاسٍ!". نعم، كلّ هذا صحيح، وعليه أغلقت نوافذ هاتفي، أفتحها بين الحين والآخر لألتقطَ صورة، لإجراء حديث مع من يستحق، ثمّ أحكم عليه بالسبات قدر ما أشاء.

الوقت ما يزال شتاءً، درجات الحرارة منخفظة، وقبالتي بحرٌ كلّه لي. ما أجمل البحر ذا البسيطة الباردة! لا هناك من يعكّر صفاء اللحظة. السائحون الضجرون ما يزالون بعيدًا عن هذا الأمكنة، لن يجرأوا على مناجاة كلّ هذه الرياح الباردة. أخيرًا وجدت ضالتي، وجدت رفيقة وأخرى وأخرى، في منتهى الجمال والأناقة، سربٌ من البجع، يعبّ المياه مرتديًا سترته البيضاء الدافئة الجميلة، يرنقني ويبتسم، هكذا تهيّأ لي، وأردّ التحيّة. وحدي أقفُ على الشاطئ وريحٌ خفيفةٌ تهبّ من مكانٍ ما، وصوت باطنيّ ينادي، يهمس "ها قد عدت". أتعرفون، شعرتُ في تلك اللحظة بفرحٍ غامر. من الذي عاد يا تُرى؟ إنّه جزءٌ صغيرٌ من ذاتي المشتّتة، أخبرني بأنّ البقية قريبًا ستحسمُ أمرها وقد تحضر لتلقي عليّ بالتحية، ولها أن تقدّر أن تبقى أم تختفي هذه المرّة بعيدًا عنّي غير آسفة إلى الأبد.

جلسنا سويّة لبعض الوقت، شربنا القهوة، تحدّثنا للبجع. كنت أحمل فطيرة محشوّة بمربّى التين. اقترب منّا نورس، لم أكن أعرف أنّ رأسه كبير وحجمه مهيب لهذا الحدّ. النورس طائرٌ متردّد وكغيره من الطيور متسوّل أنيق. حسنًا، رميت بقطعة من فطيرتي، وسارعت بالتهام ما تبقّى ليتركني وشأني. للمرّة الأولى أراه غير الصورة الشاعرية الملازمة لذكر اسمه. قد يكون هذا الطائر بالذات تائه لم يطفئ محرّكاته منذ دهر ويزيد، مثلي تمامًا، لذا فَقَدَ ألقه المعهود. نصحه جزئي العائد بالهجرة للتوّ والبحث عن مكانٍ آخر، أكثرَ دفئًا من شاطئي القابع في أحضان الشمال.

ثمّ رأيتهم قد تجمهروا من حولي، لم يحسموا أمر عودتهم بعد، لا ينظرون إليّ منشغلون بطير بجع كان قد افترب منّا كثيرًا. ما الحكاية؟ يشير عليّ "أن احضرْ، تعالْ!". وكيف ذلك؟ المياه باردة، درجة حرارتها تقارب الصفر المئويّ!

وجدت نفسي أمام امتحانٍ صعب للغاية، وعليه يعتمد استمرار شتاتي، هذا الخيار ليس عادلا أبدًا. لكن لا توجد خيارات أخرى، هذا مؤكّد. بدا الحزن مقيمًا على تضاريس وجوههم، ابتعدوا عنّي وهزّوا برؤوسهم للبجع أسىً.

ارتفعت درجة حرارتي، تناولت أسبرين وشايًا ساخنًا ومسكّنات وغيرها من العقاقير، تجمّعوا من حولي ممسكين بيديّ. شعرت بملايين الإبر تنغرس في جسدي حين قفزت في الماء، كدتُ أن أفقد وعيي من شدّة البرد الذي طاف بي تجاه مدارات بعيدة. بقيت في الفراش لأيام، وحين استعدت عافيتي، كان كلّي قد تجمّع فيّ ثانية.

أطفئ محرّكاتي، أشغّلها عند الضرورة، أنطلق بحثًا عن جزءٍ حاردٍ غاضب. صافحت نورسًا عائدًا للتوّ من رحلة طويلة، طويت أشيائي، طويت الوقت، ومضيت هذه المرّة إلى جنوب.