الساحة السياسية الفلسطينية تعاني من أزمة عميقة ومتشعبة في المفاهيم والهوية والمشاركة السياسية لكن أعمق جزئية في هذه الأزمة هو حالة الشلل والترف غير المبرر الذي يعكس انعداماً للمسؤولية وافتقاراً للرؤى. هذه الأزمة التي يعاني منها اللاعبون السياسيون من فصائل وغيرهم تهدد مصيرنا الجمعي ومستقبلنا وحقنا في الوجود واستمرار النضال.
قيل وسيقال الكثير حول عقد المجلس الوطني في نهاية شهر نيسان. حتى الآن، سمعنا من المشككين والحردانين والزعلانين ولم يخلو الأمر من تعليقات المستهزئين. لكن أياً من هؤلاء لم يطرح حلاً عملياً وواقعياً يمكن أن يخرج بنا إلى بر الأمان في الفترة الضيقة المتاحة قبل افتتاح سفارة الولايات المتحدة في القدس ووقوع المواجهة التي لا يبدو أن هناك منها مناص.
ما طرح من قبيل اجتماع الإطار القيادي الموحد وغيرها من الحلول لا تقترب من إسعاف ما نحن فيه من أزمة. المفارقة هي أن من يطرح كل هذه الخيارات يدرك تماماً أنها خيارات لا يمكن تطبيقها في المدى المنظور لأسباب عدة. أولاً، يدرك هؤلاء أن التحضير والمفاوضات الفصائلية المطلوبة لعقد مثل هذا الاجتماع الشامل والتوحيدي سيتطلب أشهراً عديدة وأن النجاح غير مضمون بسبب الظروف الإقليمية والتدخلات الإقليمية في ديناميكية الحوار وموضوع المصالحة وغيرها من العوامل. يدرك هؤلاء أيضاً أن المتغيرات السياسية الحالية تحصل بسرعة تفوق قدرة النظام السياسي بحلته الحالية على التأقلم والتصدي بالشكل المطلوب. ويدرك من يعارض انعقاد المجلس الوطني أيضاً أن حالة المنظومة السياسية الشرعية مزرية وهشة وأن تغيّب أيّ عضو عن اللجنة التنفيذية الآن سيعرينا تماما لأن اللجنة التنفيذية ستفقد النصاب ومعه قدرتها على اتخاذ أي قرار. أخيراً في هذا السياق، لا يستطيع أحد من المعارضين أن يقدم ولو بشكل تقديري تخميناً للوصفة السحرية التي ستأتي بحركتي حماس والجهاد إلى منظمة التحرير في هذه اللحظة التاريخية وبالاستناد على أي معيار وكيف لمن يطرحون هذا السيناريو الوردي ان يعتبروه واقعياً في ظل ما تشهده تفاصيل المصالحة المتعثرة من تعقيدات وتأخير في أمور أبسط بكثير.
يقول البعض إن حركة فتح وتحديداً الرئيس محمود عباس يتحملان مسؤولية ما وصل إليه النظام السياسي من ضعف ووهن. لكن هذا الطرح يغفل حالة الوهن التي أصابت بعض الفصائل والوجود الوهمي والبروتوكولي لبعضها الآخر. هذا الطرح يغفل أيضاً أن جميع فصائل منظمة التحرير فشلت حتى الآن في خلق حالة من المعارضة السياسية الحقيقية التي تقوم على تنافس الأفكار والثقل الجماهيري والفعلي على الأرض، فارتضوا لأنفسهم خفة الوزن السياسي أو حتى انعدامه لكنهم تمسكوا بالمطالبة بحصص وثقل لم يعملوا للحفاظ الفعلي عليهما. فصائل منظمة التحرير أمام أزمة وجودية لا تريد الاعتراف بها ويفضلون عدم الخوض في صراع التغيير الداخلي المطلوب وعدم الاضطرار لتبرير الابقاء على ممثلهم في منظمة التحرير بسبب افتقار التنظيم للكوادر أو بسبب الشلل الذي أصاب أطر التنظيم الداخلية.
ويقول آخرون إن انعقاد المجلس الوطني بتركيبته الحالية غير ديمقراطي أو تمثيلي ولن ينتج جديداً ويطالبون بعقد انتخابات تشريعية ورئاسية كمخرج من الأزمة.
هذا الطرح على أهمية نواياه يغفل عدداً من الحقائق المهمة وأهمها أن التمثيل الفلسطيني لا يقتصر على من هم داخل الأرض المحتلة بل ان الانزلاق في هذا الفخ الخطير سيخدم أهداف تصفية القضية، خاصة اذا ما تذكرنا ان الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة لا يشكلون سوى ثلث الشعب الفلسطيني. هذا الطرح أيضاً يعطي أهمية مبالغ فيها للسلطة الوطنية التي أنشأتها منظمة التحرير لغايات مرحلة انتهت إلى غير رجعة على حساب الصورة الأكبر والأشمل للكيان الفلسطيني السياسي الذي يمثل شعباً لا يزال معظمه في المنافي القسرية. أخيراً وليس آخراً، هذا الطرح يتناقض مع ضرورة إعادة تقييم منظومة السلطة الوطنية برمتها والارتقاء بالأداء والتمثيل إلى ما ينسجم ومتطلبات المرحلة من ناحية وما ينسجم مع تعريفنا لأنفسنا كدولة ومطالبتنا للعالم بالتصرف معنا على هذا الأساس من ناحية أخرى.
في ظل هذه التعقيدات وفي ظل التحديات السياسية الخطيرة الموجودة، على المنظومة السياسية أن تتخذ ما يمكن من خطوات لحماية التمثيل الفلسطيني ولو بشكل مرحلي. المطلوب الآن حماية التمثيل الفلسطيني بأي ثمن لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة لمواجهة ما يمارس من محاولة للتهميش والاستبدال والتهشيم من قبل إدارة ترامب ومن لف لفها إقليمياً ودولياً. وفي هذا السياق بالغ التعقيد، يصبح الحديث عن كيف وصلنا إلى هنا نوعاً من الترف الذي لا نملكه ولن يحل ما نواجهه من إشكاليات.
لن يعقد المجلس الوطني في أفضل الظروف لكن الحالة لا تحتمل ترف التأجيل والتسويف. لا مفر من كسر حالة الشلل السياسي الذي نحن فيه ولا مفر أيضاً للفصائل والمستقلين من اجتياز اختبار الجدارة والمسؤولية الماثل أمامنا. الفصائل والمستقلون مطالبون بتسمية أعضاء قادرين على تحمل المسؤوليات الجسام والاعتراف بأن الوقت قد حان لتغيير الوجوه والأفكار والقدرة الجمعية السياسية على طرح ما هو جديد وقادر على مواجهة التحديات الجديدة. اذا ما نجحت الفصائل والمستقلون في هذا الاختبار، سيكون بمقدور هذا المجلس التحضير لمؤتمر وطني توحيدي ينشل الحالة كلها مما هي فيه من تردي ويعد بانتهاء مرحلة الطيش والجكر التي أصابتنا بمقتل أو تكاد.