ترجمة الحدث - ريم أبو لبن
"لا توجد طرق مختصرة لعملية السلام، ولكن هذا لا ينبغي أن يسبب شللاً لإسرائيل". هكذا رد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في مقاله عن المقترحات التي قدمها الفيلسوف الإسرائيلي د. ميكا جودمان، وهو باحث في معهد "شالوم هارتمان" في القدس، والداعي إلى تقويض الصراع الإسرائيلي دون المساس بأمن "إسرائيل".
كتب ايهود باراك مقالا للرأي في صحيفة هآرتس وترجمته صحيفة "الحدث" على النحو التالي:
بعد مرور عام على نشر كتاب ميكا جودمان ( catch-67) وهو الأكثر مبيعاً، يقدم المؤلف طريقة جديدة تحمل عنوان "كيف يمكن لإسرائيل تقليص الاحتلال دون التقليل من أمنها" بما يتناسب مع روح الكتاب (والذي من المقرر نشره باللغة الإنجليزية في سبتمبر / أيلول)، يستمر جودمان بتلخيص مواقف الجانبين (اليسار واليمين الإسرائيلي) في الجدل السياسي الداخلي، حيث الانتقال من حالة التشبث بالأحلام إلى حالة الخوف، حيث حلم اليسار بـ"السلام"، ودعا "اليمين" للتوصل إلى اتفاق في مسألة تسوية "أرض إسرائيل".
وبحسب ما أوضح جودمان، فإن الغالبية الأخيرة من اليمين يؤكدون : "ان تسوية كل الضفة الغربية قد لا يصفي الحسابات، ولكن الانسحاب من تلك المناطق قد يؤدي إلى كارثة".
أما الأغلبية في "اليسار" وبحسب جودمان، يؤيدون بأن الانسحاب من الضفة الغربية قد لا يعني أن السلام قاب قوسين أو أدنى، لكن البقاء هناك يؤدي إلى حدوث كارثة.
برأي الباحث جودمان، فإن مواقف الجانبين في تطور، حيث يحذر "اليسار" أي من يحلمون بـ"السلام" من التدهور الأخلاقي والعزلة الدبلوماسية والفشل الديموغرافي، ويؤكدون بأن الرغبة في التمسك بالضفة الغربية يشكل تهديداَ تجاه تعريف الدولة وعلى أنها دولة "يهودية" ( حتى لو كان العرب يشكلون 40% فقط من إجمالي السكان).
أما الطرف الآخر "اليمين"، فإن الحجة لديهم تدور حول أن الدولة الفلسطينية هي عرضة لزيادة قوتها، غير أن مسألة تشكيل تحالفات عسكرية وتهديد إسرائيل بحرب قد حُلت في أعقاب الربيع العربي، والخوف من أن دولة فلسطينية ستهددهم بضعفها.
وهذا يفيد بأن تفكك هذه الدولة سيخلق فراغاً سيمتص قوى الإسلام الراديكالي والإرهاب. وفي تقدير جودمان فإن العديد من الإسرائيليين ومن مؤيدي الجانبين السابقين يقبلون بحقيقة أن الحجج التي يقدمها الجانب الآخر أي الفلسطيني تحمل في مضمونها وعلى حد وصفه بـ " قوة هائلة" ووزناً.
" معظم الإسرائيليون مرتبكون". هذا ما قاله جودمان. وقد أدركوا مخاوف كلا من الجانبين (اليسار واليمين الإسرائيلي)، وكانت النتيجة عدم التيقن بشكل عميق.
جودمان يقترح حلاً للهروب من الحيرة الدائرة في كتابه " Catch-67"، وهذا الحل يستند إلى ثلاثة "تحولات فكرية"، حيث يمكن أن تساعد في " إخراجنا من المتاهة" على حد تعبير جودمان. كما طرح أربع خطوات عملية تتخذ للخروج من تلك المتاهة.
رؤساء منظمة "بلو وايت فيوتشر" (Blue White Future) وهم عامي أيلون (Ami Ayalon)، وجلعاد شير (Gilead Sher)، وأورني بتروشكا (OrniPetrouschka)، وبجانبهم إسرائيليون قد حققوا إنجازات عظيمة في رصيدهم، وهؤلاء قد نشروا مقالاً رداً على ذلك في صحيفة "هآرتس (1 مارس / آذار)، وفيه يدعون جودمان إلى رفع نظره قليلاً، وليس الاكتفاء بتحديد التدابير التي تهدف إلى " تقويض الصراع"، وعليه النظر بشكل فاحص ودقيق تجاه الصورة العامة والكبيرة، وأن يفترض أن "إسرائيل" التي وردت في إعلان الاستقلال هي الهدف الحقيقي لـ"الصهيونية".
ذاك المقال يحتوي على سلسلة من المقترحات التشغيلية والسياسية بعيدة المدى، والتي تستحق المناقشة، غير أن هذه المقترحات لا تتجاهل الفيل الموجود في الغرفة، على عكس ما نجده في الحكومة: "إطالة حكمنا على شعب آخر وعلى سعره".
أنا على النقيض من ذلك، اخترت قراءة مقالة جودمان، حيث يظهر لي مشخص مفكر ولكنه غير ثابت في أفكاره، وهو يبحث بإخلاص عن طريقة للخروج من المتاهة التي حوصرنا فيها، وهو يتمتع كذلك بقدرة حقيقة على الاستماع لغيره وهذا الأمر نادر الحدوث بجانب قدرته على تبني وجهات نظر مختلفة بمجرد إقناعه بصحتها.
لم يقدم الباحث جودمان وحتى في كتابه المجموعة الكاملة للحلول، ومع ذلك فإن نهجه يمكن فهمه؛ فهو يتطور في الاتجاه الصحيح والهام".
وعلى الرغم من أن جودمان قد وصف وجهتي نظر الطرفين الإسرائيليين، وقد أطلق عليها وصف (التشخيص)؛ إلا إنه يكرر بشكل عام ما جاء في كتابه، ولكنني أستطيع أن أميز ما قدمه جودمان من مقترحات حول ما يجب القيام به فيما يتعلق بالوضع- "التكهن"- ابتكار حيوي وفعلي وإحداث تغيير واضح".
فيما يتعلق بالآراء الكثيرة والناقدة (ومن بينهم رأي الكاتب) وحول وجهات النظر المختلفة للأطراف. يقول جودمان وبعد مرور عام: " يجب أن أعترف بأن وجهات النظر تلك بعضها يمل إلى الصحة".
وفي ذات السياق، ومن وجهة نظر كاتب مقال الرأي: " مقترحات جودمان الثلاثة حول التغيرات المفاهيمية بجانب اقتراحه أربعة أمثلة على الخطوات العملية الممكنة، كلها مغمورة بسمات "بيت هيلل" - أي ما تعرف بالقرية الزراعية التعاونية- ( أكثر اعتدالا من مدرستين تحملان أفكاراً حول القانون اليهودي أثناء فترة الهيكل الثاني)- وهذا ما أسميه ومن وجهة نظري النقدية (اليسار المسؤول)".
التغيير المفاهيمي الأول: أن نفكر فنياً، وعلى وجه التحديد النظر إلى مجموعة من الاحتمالات، والتوقف عن وضع القضايا السياسية في قوالب دينية، وأن أي نقد غير ضروري "مفرط".
التغيير المفاهيمي الثاني: لتحرير أنفسنا من الانقسام الخاطئ، إما بـ" إنهاء الصراع" باتفاقية سلام دراماتيكية، أو "إدارة الصراع" بواسطة قوى عسكرية واستخدامها للأبد، وهذان الاحتمالان هما الوحيدان. ويتساءل جودمان: " وعلى سبيل المثال، إذا أثبت أنه من المستحيل وضع حد نهائي للحكم العسكري على الفلسطينيين، دون افتراض مفرط للمخاطر الأمنية، هل يمكن تقليص هذا الحكم العسكري وبشكل دراماتيكي إلى حد كبير؟
لا يزال هذا ما يدّعيه "اليسار المسؤول" وعلى مدار سنوات طويلة. وبعبارة أخرى، الحقيقة بأنه في معظم الأوقات ليس من المحتمل تقليص اتفاقية قد تسبب الشلل لـ"إسرائيل" إلى ذاك الحد، ومن وجهة نظر فردية لن تضع أمنها فوق اعتبارات أخرى. ومن جهة أخرى لن تعمل على تقليص "الصراع" وتقليل الاحتكاك من أجل الحفاظ على احتمالية حدوث "تسوية" في المستقبل.
ولذلك، من الضروري الاستمرار في الحفاظ على المسؤولية الشاملة لـ"إسرائيل" عن الأمن في جميع أنحاء الإقليم بأكمله، وأن كانت تلك الفترة الزمنية المطلوبة، وفي الوقت ذاته يجب الحفاظ على خيار "التسوية" المتفق عليه. وفي حال نضجت الشروط وحتى حدوث ذلك تستأنف العلاقات بشكل طبيعي مع السلطة الفلسطينية.
تجدر الإشارة، إلى أن الإجراءات العملية الأربعة التي قدمها جودمان هي جزء من مجموعة أدوات يستخدمها" اليسار المسؤول"، لكن المقترحين الأوليين، والثالث أيضاً، يشكلان راية حمراء تم التلويح بها أمام الحزب اليميني، وجميع وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية.
ها هم هنا، احتكموا لأنفسكم: أولاً، توقفوا عن توسيع المستوطنات الواقعة خارج الكتل الاستيطانية؛ ثانياً، إعادة أجزاء من مناطق (ج) الواقعة تحت السيطرة الكاملة لـ "إسرائيل" إلى يد السلطة الفلسطينية؛ ثالثاً، تعديل بروتوكول باريس الاقتصادي بطريقة تعزز من فرصة الفلسطينيين من تطوير اقتصادهم ليصبح أكثر استقلالية؛ رابعاً، ضمان الحركة وتنقل الفلسطينيين.
هذا ليس محض صدفة، بأن يختار جودمان نهج "تقليص الحكم العسكري" على الفلسطينيين، داعياً بذلك الفلسطينيين إلى تقليص الاعتماد على الجانب الإسرائيلي بهدف الحد بشكل مؤقت من تعرضهم للإذلال. ويقول: " إذا كانت إسرائيل تفتقر إلى القوة لإنهاء الصراع، فلا يزال من الممكن تقليص هذا الصراع إلى أبعاد لن تهدد وجود الدولة ذاتها".
"هذا انحراف لا يغتفر".. هذا ما يعتبره معظم اليمين الإسرائيلي، وحتى لو كان ذلك لخداع رئيس الوزراء الإسرائيلي. إن ثقافة الأكاذيب والقمع المعتادة والمعروف لدى الطرف اليميني قد تحجب الصورة.
لا أعتقد أنه من باب المصادفة – وأقول ذلك لمدح جودمان- بأن الإجراءات الأربعة التي طرحها، وجدها خلال رحلته الفكرية وخلال العام الماضي، رغم أنها كانت مدفونة في أدراج الخبراء المحترفين أمثال (موسى بن ميمون، والحاخام الراحل عوفاديا يوسف). وهؤلاء الخبراء أيضا يستحقون أن نستمع إليهم، وأن نأخذ بعين الاعتبار التساؤلات التي تدور حول ما إذا كانت التهديدات التي يطرحها الجانبان للمناقشة متشابهة.
وفي معرض التكرار، إن هذه التهديدات مختلفة جوهرياً. وإن التهديد الديموغرافي للهوية اليهودية والأمن ومستقبل إسرائيل أصبح بالتأكيد أقرب مما نعتقد وهو حقيقي للغاية، غير أن التهديد الذي يصوره اليمين- وهو ينطوي على انهيار السلطة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية وخلق فراغ من شأنه أن يرسم الإرهاب الراديكالي، و هو في الواقع تهديد ملموس، ولكنه لا يشكل تهديداً لوجود إسرائيل.
هذا رأي الخبراء المحترفين ورأيي أنا أيضاً. وهنا يمكننا أن نطرح تساؤلا مفاده، لماذا أولئك الذين يرفعون الحجج بأن ضعف السلطة الفلسطينية يشكل تهديداً لإسرائيل يفعلون كل ما في وسعهم لإضعاف السلطة الفلسطينية، بدلاً من تعزيزها؟"
اليوم التالي بعد نتنياهو
إن التحول المفاهيمي الثالث والأخير والذي اقترحه جودمان ينطوي على تنازلات مؤلمة لأحلامنا. على اليمين حلم الخلاص عن طريق "التسوية" في منطقة الضفة الغربية. وعلى اليسار حلم السلام في شرق أوسط جديد. ومرة أخرى، فإن القوة والشجاعة للنزول من الحلم إلى الواقع بجانب اتخاذ القرارات وتنفيذها أيضاً، هي حجر الزاوية في أي نهج وهو موجود في السجل التاريخي لدى اليسار المسؤول، وهو أيضاً العنصر الأساسي الذي تفتقر إليه القيادة الإسرائيلية الحالية.
وفي ذات السياق، قد أعبر عن هذا الجانب بشكل مختلف بقول هرتزل: "كل أعمال الرجال تنبت في الأحلام؛ ونهايتهم - وهذا أيضا، هو حلم".
إن الحلم والحق في الحلم هما تعبيران عميقان ويعبران عن الإنسانية، كما ويضيفان نوعاً من الإلهام والمعنى، لن أتخلى عن أي شيء، وما يجب أن نصرّ عليه هو القدرة على التمييز والتفريق بين الحلم وخطة العمل السياسية.
الحق في العلم هو رهن الفرد والمجموعات وكذلك الشعوب، ولكن عندما ننظر إلى العمل السياسي أو العسكري فإنه يكون الفعل الحاسم هو اختبار الواقع، ومهما كان قاسياً فإن الحلم سيبقى موجوداً في الخلف، ولكن مبدأ الواقع هو من يحفز على اتخاذ القرار.
سأعود للحظة لأصدقائي، أي قادة "بلو وايت فيوتشر" (Blue White Future)، إن دعوتهم للتحديق بالواقع بشكل معمق من أجل الاعتراف بالمكان الذي قمنا بـ"اجتياحه" وتحديد ما نرغب به حقاً ونقدم التوصيات بذلك.
ومثلهم، أنا أؤمن بشدة في تبني إعلان استقلال إسرائيل كوثيقة قد شُكلت لتحقيق أهداف الصهيونية والدولة، وكدستورنا الفعلي. ولكن حتى أولئك الذين لا يوافقون على تفاصيل برنامجهم سيظهرون فيه نوع من الزخم والوضوح بما تحتاجه إسرائيل وإيضاح الحلم و الرؤية الكامنة.
مطلبهم مشروع في حال تم استهداف القادة أو من يغير توجه الرأي العام، ومع ذلك فإن دعوتهم لجودمان لاعتماد طريقة الملاحظة هي غير كافية لحد ما.
يقول جودمان بأنه عمد على اتباع الوصف بتحليل الخطاب الإسرائيلي وليس لتحديد من هو على حق. إن كان سيتبنى المواقف التي ينادي بها قادة "بلو وايت فيوتشر"، فسيتم وضعه بيد "يساري"، ولن يستمع إليه أحد من المعسكر اليميني. وبالنسبة لي أنا راضٍ عن التغيير الذي يبدو أنه خضع له بالفعل، ولكن قد يضطر جودمان إلى التقليل من شأن ذلك حتى يستمر "اليمين" بالاستماع له.
إن مضمون الحوار الداخلي في إسرائيل مهم جداً، ونحن مستعدون ونؤمن في بداية نهاية فترة نتنياهو، ففي عصره تميز بخطاب أكثر عنفاً مما رأيناه سابقاً؛ حيث كان التحريض من جانب الإسرائيليين ضد بعضهم البعض، ومن الأفراد والجماعات التي وصفت بـ"الخائنة"، ومن تهديد لا يهدأ من قبل وسائل إعلام حرة، إلى منظمات حقوق الإنسان، إلى المجتمع المدني، إلى قيم جيش الاحتلال، إلى المحكمة العليا أيضاً، ومؤخراً إلى المسؤولين وقيادة إنفاذ القانون.
ومثل تفشي مرض يصيب جهاز المناعة الذاتية، فإن رئيس السلطة التنفيذية وعدد قليل من التابعين يصعدون هجوماً على مؤسسات الدولة ويدافعون معاً عن تصوراتهم، وهم بذلك يحاولون تقطيع قيم دولة إسرائيل ومؤسساتها، من أجل تخليص "الفرد الواحد" أو مجموعة صغيرة حوله من عواقب سلوكم "الفاسد".
وعندما يقترب هذا الأمر، سيكون الأمل خلفنا، وسيحدث باعتقادي "تطهير للعواطف"، وبعدها سنكون أمام دعوة لإعادة الإصلاح (ليس جسدياً) لكل ما تم إهداره.
بداية كل عملية إصلاح هو الحوار، حوار مختلف ومفتوح، ولن يكون قصيراً أو سهلا، إن الأمتعة المحملة بالأوجاع، وأحياناً الكراهية تكون ثقيلة. غير أن الثقة التي حملها الملايين من هيئات الدولة ومؤسساتها بجانب الأصوات النشيطة في قضايا الرأي العام قد تعرضت للتصدع وبشكل شديد.
جودمان، وحتى في نظر ناقد مثلي هو مفكر ومحقق، وهو يبحث عن الشخص الذي يساهم بقدر كبير بالحديث بمستوى عال عن الحوار الإسرائيلي الداخلي، حيث يمكن الاستفادة من نقاشات جودمان في هذا الجانب.
الرحلة التي قدمها جودمان قد صنعت أرضية للأمل، وهذا الرأي ممكن ويخضع لعدة شعارات، منها: " ما بعد الحقيقة"، "الأخبار المزيفة"، "الحقائق البديلة" والأخيرة تكمن بما يسمى (الحقيقة، المنطق، التسامح، الاستماع) وباختصار (بيت هيلل).
كتب باراك في نهاية مقاله: " مع اقترابنا من الذكرى السبعين لتأسس الدولة، يحق لنا النظر إلى الوراء بارتياح وفخر، وأن نتقدم للأمام بالأمل والأمن. ولكن في الأفق يلوح بنا تحدي فردي ألا وهو: إمكانية استعادة شعب إسرائيل للحوار المباشر، والقيم والمعايير التي تآكلت وتلاشت، بجانب الوحدة الداخلية والاعتراف بأن " جميع الإسرائيلين مسؤولين عن بعضهم البعض". هكذا نحن من أجل الأخوة، وعلى هذا النحو يجب أن نتصرف