بقلم: رائد دحبور
ها هي تطبيقات مفهوم الجدار المانع ونظرية الوعي والإنهاك مستمرِّة وتؤكدها أحداث الأسبوعين الماضيين والحجم الكبير من الضَّحايا من بين المتظاهرين الفلسطينيين بفعل نيران الجيش الإسرائيلي على السياج الذي يحيط بقطاع غزَّة، ذلك السياج الذي يجعل من قطاع غزَّة معتقلاً في الهواء الطلق لمئات الآلاف من الفلسطينيين ومستودعاً من الحرمان والمكبوتات وكافَّة صنوف المعاناة الإنسانيَّة المُلقاة وراء جدار إسرائيل المانع.
تؤكِّد تلك الأحداث والوقائع استمرار التطبيق المنهجي لنظرية الوعي والإنهاك التي صيغت في أوساط الجيش الإسرائيلي قُبَيْلَ عام 2000، حيث جرى تطبيق وتفعيل تلك النظرية بصورة مدروسة وأكثر دراماتيكيَّة ضد الفلسطينيين أثناء سنوات انتفاضة الأقصى وذلك ضمن مفهوم ونظريات الحروب الجديدة التي تبنَّاها الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الوقت، والتي اعتبرت أنَّ الحروب الجديدة هي حروب على الوعي بدرجة أساسيَّة، وهي تستهدف جوهريَّاً إحداث تغييرات سلبيَّة حاسمة في وعي الخصم على ذاته من خلال استخدام عوامل وأدوات القوَّة المتفوِّقة والمُفرِطة وبشكلٍ مقصودٍ منهجيَّاً ضد أهداف شاملة ومتنوِّعة عسكريَّة ومدنيَّة على حدٍّ سواء ودون تمييز إذا اقتضى الأمر؛ مما يُفقد الخصم التوازن والثقة بإمكانيَّة تحقيق أيَّاً من أهدافه، وبما يدفع وعيه إلى اليأس من جدوى الاستمرار في المواجهة، وقد جرى تطبيق تلك النظريات فيما بعد في لبنان في حرب تموز عام 2006 وفي الحروب على غزَّة في السنوات التي أعقبت انتفاضة الأقصى وحرب لبنان الثانية، وذلك عبر الاستهداف المنهجي الشامل للمدنيين وللبُنى التحتيَّة. إنَّ منطق تلك النظرية يقول في المحصلة: أنْ لا حدود أمام الاستخدام المفرط للقوة ولا قيود على ذلك من أيِّ نوعٍ؛ إذا اقتضى الأمر- وهذا الأمر بالمناسبة تحدده حسابات السياسة والتجاذبات الداخليَّة في الحالة الإسرائيليَّة - ولا إمكانيَّة للسماح باستغلال نقاط التفوُّق النسبي والجزئي دعائياً أو معنوياً أو أخلاقياً للخصم – الفلسطيني - تحت أيِّ ظرف.
تُذَكِّرُنا المعطيات والمشاهد الأخيرة على حدود غزَّة بما كان قد جرى في الأيَّام الأولى من بداية أحداث انتفاضة الأقصى؛ فبرغم أنَّ احتجاجات الفلسطينيين كانت قد اقتصرت على المظاهرات وقبل أنْ يستخدموا وبصورة غير احترافيَّة أيَّ نوعٍ من الأسلحة النارية الخفيفة والمُتدنية تقنياً بل والبدائية مقارنة بما يمتلكه الجيش الإسرائيلي والتي كانت بحوزة عدد قليل منهم، فقد عمد الجيش الإسرائيلي ومنذ الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى إلى الاستهداف المقصود للمتظاهرين بالنيران الحيَّة والكثيفة وبما كان يوقع أكبر عدد ممكن من الضحايا في صفوفهم يومياً؛ وهو الأمر الذي دفع بشمعون بيريس – على سبيل المثال – أنْ يسأل إيهود بارك كرئيس للحكومة حينذاك علناً وعبر وسائل الإعلام، عن مغزى الإصرار المقصود على إخراج عدد من الجنازات للفلسطينيين يومياً بما يتراوح ما بين سبع وعشر جنازات وكنتيجة لتظاهرات واحتجاجات جماهيريَّة، وبدون مبرر حقيقي؟!. وقد تبيَّن لاحقاً أنَّ سلوك الجيش الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين حينذاك كان يجري وفق نظرية تم صياغتها من قبل مجموعة من الضباط المحترفين ورفيعي المستوى في هيئة الأركان الإسرائيلية قبيل ذلك بسنوات قليلة، وجرى تطبيقها وتطويرها منذ اليوم الأوَّل لاندلاع انتفاضة الأقصى. وللمفارقة؛ فقد كان موشيه بوغي يعلون أحد أولئك الضُّباط الذي صاغوا تلك النظريَّة وهو ابن الكيبوتس التعاوني أو الاشتراكي والذي كان فيما مضى عضواً في الحركة العمَّالية وحيث كان شمعون بيريس من أبرز منظريها وقادتها خلال سنواتٍ طويلة؛ فقد كتب يُؤاف ليمور في صحيفة معاريف بتاريخ 12 تمُّوز عام 2002 وتحت عنوان " رئيس هيئة أركان الإجماع الوطني " أنَّ يعلون كان قد أدلى بعدّةِ تصريحاتٍ أشارتْ إلى الفرضيات الأساسيَّة التي تبنَّتها النَّظريَّة الجديدة على المستوى السَّياسي والتَّكنيكي، ومن تلك الأقوال التي أدلى بها يعلون في نهاية عقد التِّسعينات: " ليس هناك في الجانب الفلسطيني من يمكن التحدث معه، وأضاف، إنَّ الأمور وصلت إلى درجة خطيرة جداً مما يستدعي تطوير إستراتيجيَّة الجدار المانع التي لا يمكن لإسرائيل بموجبها أن تنجح في صراعها؛ إلَّا إذا كانت مصممة وموحدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكريَّاً وإعلاميَّاً ". وقد كان يعلون بذلك – وهو ابن الحركة العمالية كما ذكرنا – يُحاكي عبر مفهومه للجدار المانع نظرية الجدار الحديدي لـ زئيف جابوتِنسكي، زعيم الحركة التنقيحيَّة داخل الحركة الصهيونيَّة التي كانت تُعَدُّ أبرز منافسي الحركة العماليَّة ما قبل قيام إسرائيل وما بعد ذلك أيضاً، وهو – أيْ جابوتنسكي - بطبيعة الحال الأب الرُّوحي التاريخي لليمين الإسرائيلي ولليكود كما هو معروف. وقد تبيَّن فيما بعد أنَّ ما أشار إليه يعلون – على سبيل المثال - من ضرورة التمسك بمفهوم الجدار المانع؛ أصبح هو السياسة الإسرائيليَّة الرَّسميَّة المتَّبَعة والتي تحظى بالإجماع وتشكِّل البنود الأساسيَّة على جدول أعمال الحكومات المتعاقبة وعلى جدول أعمال الجيش والمجتمع الإسرائيلي بكافَّة تيَّاراته السياسيَّة والثَّقافيَّة والنَّخبويَّة تقريباً.
بحسب ما يشرح أوري بن إليعازر في كتابه حروب إسرائيل الجديدة، فقد بدأت بوادر نظرية الوعي والإنهاك تظهر في النصف الثاني من عقد التسعينيَّات في مجلة " مَعْرَخوت " حيث تُعتبر هذه المجلة لسان حال الجيش الإسرائيلي، وقد تناولت المجلة في مقالاتها الحروب منخفضة القوَّة والحروب غير المتناظرة، وإزاءَ توصيف أي مواجهة محتملة مع الفلسطينيين باعتبارها حرباً غير متناظرة؛ فقد كان هناك ضرورة لتطوير نظرية قتالية تمنع العدو من جر إسرائيل إلى أشكال من المواجهة يمتلك فيها تفوقاً نسبياً – حيث اعْتُبِرَتْ أشكال الاحتجاج الشعبي والجماهيري وما يمكن أنْ تتضمنه هذه الصور من المواجهة غير المتكافئة من مزايا لصالح الفلسطينيين على مستوى الوعي وعلى المستوى الإعلامي والدِّعائي والأخلاقي والمعنوي تفوقاً نسبياً لصالح الفلسطينيين - وأكدت المقالات أن العدو يحاول في مثل هذا النوع من الحرب استغلال ليس فقط نقاط الضعف العسكرية لمن يواجهه، وإنما المستوى الأخلاقي العالي لديه، والقيود المفروضة على جنوده. وقد أوحى ذلك بأن المستوى الأخلاقي العالي والقيود القانونية يشكلان عائقا في الحرب، وأنه يتعين على الجيش العثور علي سبل للتغلب على المشكلة وأسلوب حلها، وكانت بعض وجهات النَّظر المُعَبَّر عنها في صحيفة معرخوت – لسان حال الجيش الإسرائيلي – تقول وبحسب ما ورد في العدد 174 لعام 2000 من تلك الصَّحيفة وتحت عنوان تكبيل استخدام القوَّة في الضِّفة الغربيَّة في عهد الاتفاقات : " ثمة شعور منذ بدء العملية السياسية بأنَّ الاتفاقات مكنت الفلسطينيين من رفع رؤوسهم والتصرف كأنَّهم أصحاب البيت، ومن ناحية عمليَّة، إنَّ سلوكهم ينطوي على أحياناً على التعالي والاستفزاز، مع أنَّنا نحن الطَّرف الأقوى ونستطيع الرَّد بصورة مُدمِّرة. إنَّ حقيقة عدم قيامنا بذلك تنبع من قيود سياسيَّة فرضناها على أنفسنا ". يقول أوري بن إليعازر البروفوسور المتخصص في سوسيولوجيا الحرب في إسرائيل: " لقد توصَّل مهندسو النظرية الجديدة – نظرية الوعي والإنهاك – إلى استنتاج بأنَّ المواجهة المحدودة، وخلافاً للاعتقاد الذي ساد حتى ذلك الوقت، يمكن أنْ تُفضي إلى تغيير استراتيجي وسياسي جوهري، ربما ينجم عنه أيضاً تهديد وجودي.. ويتساءَل بن إليعازر وفي معرض تعقيبه على مثل تلك الصيغ وتناوله بالشرح التفصيلي لتلك النظرية: " هل اعتقد هؤلاء حقَّاً بأنَّ أسلوب ( الإرهاب ) والأسلحة الفرديَّة التي يتسلَّح بها الطَّرف الضَّعيف ستهدد وجود قوَّة إقليميَّة مثل إسرائيل، أم أنَّهم أدركوا أنَّ مثل هذا الرَّأي سيخدم جيداً الجيش الإسرائيلي في السنوات المقبلة، ويبرر الطَّابع القاسي للممارسات والعقوبات التي سيلجأ إليها الجيش الإسرائيلي في الحرب القادمة ؟! ". ويواصل القول وفق فرضيات تلك النظريَّة: " خلافاً للحرب التقليديَّة، التي تتناول فيها النظرية العسكريَّة احتلال الأرض، بينما تنصب جهود القوَّة على التَّحركات البريَّة وإمطار النِّيران، فإنَّ الصراع في المواجهة المحدودة يدور على الوعي، وفقاً لاعتقاد القائمين على صياغة النظرية القتالية الجديدة، والذي بدا لهم هذا البعد مركزيَّاً جداً. فالحسم في الحرب التقليديَّة يتم حين يتمكَّن أحد الطَّرفين من كسر مقاومة الطَّرف الآخر، وبذلك يحقق أهدافه. أمَّا في المواجهات المحدودة؛ فإنَّ الحسم لا يتحقق على المستويات التكتيكيَّة والعملاتيَّة، وإنَّما على مستوى وعي مجتمع العدو. وقد أوضح ذلك الجنرال السابق د. إسحق بن يسرائيل، والذي كانت له أيضاً مساهمة مهمَّة في صياغة النَّظريَّة، بقوله: الحسم هو فعل عقلي يتحقق عمليَّاً في وعي الطَّرف المهزوم، عندما يتوصَّل إلى استنتاج بأنَّ وقف القتال أو الحرب أفضل في نظره من استمرارها ".
بالإجمال.. منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000 اعتبرت إسرائيل نفسها في مواجهة مفتوحة مع الفلسطينيين، وقد صنَّفت تلك المواجهة بكونها حرب بكل ما تعني الكلمة، وقد اعتبرت أنَّ تطبيقات فرضيَّات نظريات الحرب الجديدة، ومنها نظرية الوعي والإنهاك وما يمكن أن تحققه من نتائج، يجب أنْ تستمر. وهو ما يفسر مغزى الإجماع الماثل حالياً في إسرائيل حيال ما يجرى من تصرُّفات من قبل الجيش الإسرائيلي على حدود غزَّة، وهو ما يفسر تصريحات أفيغدور لبرمان وزير الحرب الإسرائيلي الأخيرة، من أنّ الجيش الإسرائيلي سيبقى متواجداً ومستعداً للتصرُّف على حدود سياج غزَّة لفترةٍ طويلة طالما استمرَّت مظاهرات العودة، وبما يوحي بأنَّ تلك المسيرات تشكل تهديداً وجوديَّاً !!. لكن ومع كل ذلك، وعلى ضوء نتائج تطبيقات تلك النَّظريات؛ فلا يبدو أنَّها سحقت الوعي الفلسطيني أو وعي اللبنانيين، كما توقَّع مهندسو تلك النظريات، وعلى ما يبدو أنَّ إسرائيل وعن طريق مواصلتها لنهج البحث عن حلول عسكريَّة لمشاكل سياسيَّة وإقليميَّة مُستعصية تعيد الأمور إلى المربع الأوَّل دائماً، وتدفع سيرورة الأحداث للدوران في حلقة مُفرغة، وربما هذا ما تريده هي بالذَات دائماً !!.