الحدث ــ محمد بدر
قبل شهر تقريبا، اجتاحت قوة عسكرية إسرائيلية معززة بدبابات وجرافات، منطقة شرق خانيونس في قطاع غزة، بدأنا في "الحدث" بالبحث في المواقع العبرية عن الرواية الإسرائيلية حول الموضوع وعن سبب الاجتياح، وطلبنا في نفس الوقت من مراسلنا في قطاع غزة متابعة الأمر وتحديثنا بالمعلومات كمصدر أساسي للمعلومة.
بعد ساعات كان بحوزتنا في "الحدث" فيديو حصري ورواية كاملة، لسبب هذا الاجتياح. مجموعة من الفتية لا تتجاوز أعمارهم 17 عاما، قرروا إرباك جيش الاحتلال، فزرعوا على الحدود ماتور غسالة، وظن الاحتلال أنه عبوة ناسفة، فاستقدم آلياته وجاء مدججا لتفجير تلك العبوة.
في مركز القدس للدراسات والشؤون الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث إسرائيلي، ويكتب فيه خبراء ومحللون ودبلوماسيون وعسكريون، كتب المحلل الإسرائيلي يوني بن مناحيم، أن لديه معلومات وكذلك تحليلات من مسؤوليين في المستوى الأمني تفيد أن هذه العبوة عند الحدود تم توجيه الترتيبات بشأنها من قبل قاسم سليماني قائد فيلق قدس في الحرس الثوري، وحركة حماس، مضيفا أن ما يجري هو تدشين لمرحلة جديدة ستكون فيها العبوات الناسفة على الحدود هي المعادلة الأهم واللغة الأوضح على امتداد السلك الفاصل.
في النهاية، استدعى الأمر منّا أن نكتب عن افتراضات بن مناحيم، في ظل وجود الرواية ككل معنا، وبالفعل كتبنا قصة "اجتياح الغسالة وتحليل محلل إسرائيلي كبير".
ما نشر يوم الخميس، عن قضية الشاب المغدور رائد غروف، وتحديدا بخصوص أن رئيس الوزراء رامي الحمدالله أمر بقتل الغروف لإخفاء فضيحة جنسية، يضعنا أمام استحقاق مهم وجدي في التعاطي مع المعلومة العبرية، خاصة وأن بن مناحيم نشر هذه المعلومة على حسابه الشخصي على تويتر، وليس في تحليل أو تقرير مفصل أو في سياق تدليلي منطقي، عبر وسيلة إعلامية.
وبنقاط مختصرة يمكن البناء عليها مستقبلا، فإنه من المهم الأخذ بعين الاعتبار الآتي:
- أساء بن مناحيم للشعب الفلسطيني، ليس لأنه اتهم رئيس وزرائه بفضيحة لا يوجد دلائل عليها فقط، وإنما عندما كتب أن هذا الحديث يدور في الأوساط الشعبية الفلسطينية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما علاقة بن مناحيم بالأوساط الشعبية؟ هل هو ضابط مخابرات ولديه عملاء ويتقمص دور كاتب؟ أم أن هناك انفتاحا بين الأوساط الشعبية الفلسطينية وبين المحللين الإسرائيليين لدرجة أنهم سمعوا بما لم نسمع به نحن الصحفيون الفلسطينيون؟
- الصحفي الإسرائيلي، المرحب به دائما في المقابلات لدى بعض السياسيين الفلسطينيين، والذي اكتسب بعض المصداقية، بسبب انفتاح المسؤولين الفلسطينيين عليه، وتقديم بعض التسريبات التي كانت تقال له في المقابلات، لدرجة أننا أحيانا كنا ننتظر ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية عن قضية سياسية داخلية، قد منح هذا الصحفي دفعة قوية للعبث بالواقع الفلسطيني الداخلي. الإعلام العبري يجب أن يُقاطع، أو في أقل تقدير يجب أن يُعامل الإعلام الفلسطيني بدرجة مماثلة من الانفتاح، وتقديم المعلومات الحصرية. أما في مسألة يوني بن مناحيم تحديدا فإنه يجب أن يقاطع من قبل القادة الفلسطينيين، لأن هذا الصحفي يعمل ضمن سقف أمني، وتجنيده للمعلومات أمني بالضرورة. فمن صنع من الصحفي الإسرائيلي نجما للحقيقة، عليه أن يتذكر أن الصحفي الإسرائيلي أداة من أدوات الشيطان.
- أساء بن مناحيم للمغدور رائد غروف. لا أظن أن شابا كالغروف ـ وعلى حد وصف من يعرفه، أنه خلوق ومهذب ـ أن يقوم بتصوير مشاهد جنسية أو أنه يلاحق قصصا جنسية. الغروف جاء من أريحا لرام الله من أجل قوت يومه، ككثيرين من أبناء هذا الشعب الذين يحاول الإعلام العبري استغلال معاناتهم كي يوظفوها في تدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني الداخلي، وتحويلهم لأدوات تخدم أجندة الاحتلال.
- الأهم، كيف يمكن أن تتحول تغريدة لمحلل إسرائيلي من الممكن أن يلغيها أو يحذفها في دقائق، إلى مصدر للمعلومة؟ هل نشر بن مناحيم تفاصيل معينة في القضية؟ أو قدم سردا معينا عنها؟ والأهم هل قدم دلائل واضحة.
- السؤال الخطير، لماذا الآن؟ .. الإجابة: لأن هنالك بيئة مواتية لنشر فضائح تطال المستوى السياسي في فلسطين، فالجميع يعرف أن هناك قضية رأي عام حدثت في فندق الملينيوم، التابع لمؤسسة فلسطينية، هي صندوق الاستثمار الفلسطيني، التي تدير أموالا عامة، والجهة تلك لم تصدر أي تصريح صحفي بشأن اعتقال أحد أبرز موظفيي شركاتها التابعة، ولم يصدر أي بيان أو توضيح عن النائب العام، للرأي العام في فلسطين، بشأن قضية تم منع النشر في تفاصيلها، فزادت الأقاويل والشائعات بشأنها، وكلها تتمحور حول أن هنالك فضيحة جنسية في فندق الملينيوم يتورط فيها كبار الشخصيات أو أبناؤهم. وهذا خطأ سياسي بامتياز سببه دائما محاولة إخفاء المعلومات عن الصحفيين، بل واستهدافهم وتجريمهم، وتحويلهم لأعداء مفترضين. والأصل إطلاع الصحفي الفلسطيني على المعلومات التي يمكن له من خلالها أن يحارب ويجابه الشائعات ومحاولات الإستغلال والتصيد، لأن الصحفي الفلسطيني لم يكن يوما صاحب أجندة غير وطنية لتجعل منه عدوا للسلطة مستهدفا من قبلها، فالاختلاف في الرأي وتوجيه النقد للمؤسسات الوطنية الفلسطينية وشخصياتها الاعتبارية، هو أولا وأخيرا من مهمة الصحافة التي سميت سلطة رابعة لهذا الأمر تحديدا، ولأنه يطمح لأن يرى فلسطين وشعبها بحالة أفضل، فهل هذا هو طموح الصحافة الإسرائيلية.
- إن تأخر الجهات المختصة في الإفصاح والتوضيح بشأن القضايا العامة، وخاصة قضايا الرأي العام، كالقتل وغيرها، يفسح المجال أمام التحليلات والتأويلات والإستغلال أيضا من قبل أطراف كثيرة، ولا يكفي النفي الموجه من رئيس الوزراء في البيان المنشور حول الموضوع، ذلك لأنه أصبح بالمحصلة طرفا في الأمر أراد ذلك أم لا. ولو أن المؤسسة السياسية الفلسطينية قد بنت علاقة صحية مع الصحفيين، لكان الجميع اليوم في معرض الدفاع عن رئيس الوزراء، وهو ما لم يتم رغم قناعة الكثيرين منهم أن ما نشر على لسان الصحافة العبرية ملفق.
-الهدف الآخر كما يبدو، هو إشغال الرأي العام الفلسطيني بقضايا تحرفهم عن المعركة التي تجري على حدود غزة، والتي يحاول الإعلام العبري إخمادها تارة بنشر تصريحات مزعومة لقادة من حماس، على أنها خاصة وحصرية له، وتأتي في سياق حرف أهداف المعركة من معركة سياسية ومعركة حقوق، إلى معركة بأهداف إقتصادية، وحذرنا في تحليل سابق من هذه الظاهرة، وافترضنا كذب الإعلام الإسرائيلي في هذا الجانب. واليوم، أيضا، نفترض كذب بن مناحيم في قضية الملينيوم ورائد الغروف، ورئيس الوزراء.
طرحنا مثال ماتور الغسالة والفتية، لندلل كيف أن بن مناحيم والإعلام العبري، حينها، حاول أن يصنع من هذا القرار الطفولي البطولي لشباب عند حدود القطاع، قرارا إقليميا، وبدأ بالحديث عن سليماني والقيادي صالح العاروري، وعندما سمعنا الرواية من الفتية، وجدنا أن القرار لم يتجاوز شجاعة الفتية وشجاعة إحدى حارات خانيونس.
من الجريمة والمصيبة، أن يتم تجنيد المعلومة العبرية، للتنظير الداخلي. وبكل وضوح فإن الإسرائيليين اكتشفوا هذه المسألة لدينا مبكرا، ويعملون من خلالها وضمنها، في كثير مما يطرحونه.