مشهد أول
أغفوا على حافة الفجر، فأيقظني ديك لم أسمع صياحه سوى في مسلسل مصري قديم قبل سنوات. فتحت عينيّ على ضحك خفيف. أعجبني صياح الديك المباشر، غير المسجل. جميل عذب، يشي بروح زعامة لا تقل علوّا عن روح الزعامات التاريخية للفلسطينيين. تخيّلته يشد جسده إلى أعلى فتتمدّد ساقاه قليلا، ينتفخ بكبرياء كأن روحا عظيمة تتمدد في داخله. ينتفش ريشه متباعدا عن بعضه قليلا مضخما حجمه الطبيعي، ويشرأب ذيله الملون إلى أعلى مثل طاووس يسخر من غابة طيور. يرفع رأسه عاليا. ينتصب عرفه الأحمر مثل تاج ملكي، قبل أن يقرر على مسمع من كل دجاجة يصل إليها صياحه، أن وقت الصحو قد حان، ويطلق صيحته المحذرة من استمرار النوم: أُؤْ..أُأُؤْ..أووووووووو.
فرحت، لكن فرحتي لم تدم سوى بضع ثوان، تناثرت بعدها في عتمة غرفة نومي مع صياح مجموعات من ديوك المخيم، راحت تردّ الجميل للديك الذي أمضى الليل ساهرا في نوبة حراسة من أجلها. أخذت تتحداه معلنة انها كانت يقظة ساهرة على حارات مخيمها، وأنها كانت على وشك أخذ المبادرة منه، لولا فروق التوقيت في ساعاتها البيولوجية، التي لا تختلف عن فروق التوقيت في ساعات مؤذني المساجد فجرا.
على السطح، فوق رأسي تماما، لم تلبث أن اقيمت احتفالات شعبية، مثل مهرجان حشدت له منظمة فلسطينية مسلحة: كأكأة منفردة انطلقت من على السطح فور انطلاق مهرجان الديوك، خافتة في البداية مثل اعلان خجول: ك كا كاك بكباكباكبككاك. تبعتها كأكآت وبكبكات جماعية أخذت تتزايد صخبا، مثل صياح الرجال في زفة عريس، لحظة ينزلونه عن أكتافهم أمام عتبة باب بيته. يدقّون الأرض بأقدامهم غيرة وحسدا، وتشجيعا له ايضا، على إنجاز مهمته التاريخية الملحّة، بينما يتصايحون ويدفعون به إلى داخل جنته:
اذبحوني
ع باب الدار..
اذبحوني
ع باب الدار...
والدجاجات تصيح: بكباكباكاكاك اذبحوني بكبكباكبككااااك..ع باب الدار
كاككاك ... اذبحوني.. كككاككاك...
وملأ صياح الدجاج المخيم بأكمله. ولابد أن يكون هناك ما يستحق هذا الكرنفال الصباحي الكبير: إنتاج بضع آلاف بيضة مثلا.
بقيت مستيقظا بعض الوقت، أتأمل الفجر يخلع عنه بقايا الليل ويكتسي الفضي المميز. اشبعت عينيّ بطعم اليقظة فلم أقو عليها. قررت العودة إلى النوم متجاهلا كل ما يمكن أن يحدث. وغفوت مستيقظا على أصوات محركات السيارات وعربات الخضار التي تجرها الحمير، تثير ضجيجها الخاص الذي نسيت ايقاعه منذ أربعة قرون، وعلى شواكيش النجارين وطرقات الحدادين تعلن بداية يوم عمل جديد. وفوق هذا كله، لم تكن الزنانة، طائرة الإسرائيلية التي لا يقودها طيار، قد كفّت اصلا عن التأكيد طيلة الليل بأنها تستحق اسمها الشعبي، ولا الرصاص المتقطع عن تقطعه. صباحي الأول اصيب بالصرع، فلم يترك النعاس ينعس في عينيّ، ولا جعل اليقظة تستيقظ فيهما.
مشهد ثاني
سألتني أمي (بعد أن صبّحت عليها بقبلة معتقة منذ ثمانية وثلاثين عاما على جبينها، وردّت عليها بإعلان رضاها عني إلى يوم الدين، وجلست إلى جانبها)، إن كنت قد نمت جيدا ليلة البارحة.
أجبتها أنني بالكاد أغمضت عيني ساعتين على الأكثر. وفصّلت لها الوقائع مازحا، شارحا لها كيف لاحقني نباح الكلاب الفلسطينية، ساخرا هازئا من الكلاب الانكليزية التي تمتثل للقانون البريطاني. وكيف أفهمني صياح الديوك أن الفجر ملك لها وحدها، حتى لو شاركتها فيه المآذن التي لا تعرف توقيتا للأذان. ولعلعة الرصاص التي تستمد حيويتها من الصراع. أما الدجاج.. آه يمه آه من الدجاج. إنها الكائنات الوحيدة التي تحرص على انتاج غذائكم وتعمل على توفيره قبل طلوع النهار. أما نهيق الحمير، فمنذ سنوات لم انصت لصوت حنون مثله. اشتقت لنهيق حميركم يمه..حميرنا الوطنية.
صمت لحظة، بينما كانت أمي تقلب شفتيها دهشة واستغرابا، ثم تابعت: “أتعرفين يا أمي، نحن لا حمير عندنا ابدا. ولو أتوا بحمار إلى لندن، فإنهم يأخذونه إلى حديقة الحيوانات، أو إلى ساحة عامة. وتتراكض حوله وسائل الاعلام. ويلتقط الزوار بكاميرات هواتفهم الجوالة صورا له. ويطلب بعضهم من آخر التقاط صورة تذكارية له مع الحمار الضيف الذي يزور البلاد. نعم يقوم بزيارة للبلاد، وقد دخلها بهوية رسمية تعرّف بأصله وحسبه ونسبه. وأُخضِع لفحص طبي حفاظا على سلامته، حتى أنني شخصيا، فكّرت في التقاط صورة لي مع أول حمار بلدي اصادفه هنا..
«أما العربات والسيارات التي تستيقظ من طيز الليل، لا تؤاخذيني على هذا التعبير، فأنت تعرفينها. والأذان..يا الله على الأذان في هذه البلاد، خمسمائة ميكروفون تفرغ اصواتها في أذني المتعبتين من صراخ جنود معبر ايريز منذ أمس. هل قامت القيامة عندكم من دون بقية خلق الله؟ هل يخشى الناس على اماكنهم في الجنة؟ ولماذا لا ينتظمون في طابور إلى أن تتم مراجعة حساباتهم؟ المصيبة أن كل مؤذن لا يثق إلا في ساعته ثقة المنظمات الفلسطينية ببرامجها وإنكارها لبرامج الآخرين غير الدقيقة. قلت لنفسي، وقد بدأت أمي جولة ضحك لم تشأ الإعلان عنه صراحة: “أربعون عاما يا أمي لم يوحد الفلسطينيون منظماتهم، ولا أعتقد أنهم سينجحون في توحيد الأذان خلال زيارتي هذه».
مسحت أمي عن شفتيها ابتسامة خفيفة من بقايا ضحكها غير المعلن، وقالت بصوت مطمئن حنون: “بيهمّش يمه..هذا بس عشان أول ليلة إلك في لبلاد.. بكره بتتعوّد..أحنا بيني وبينك بطّلنا من زمان نحس ابْئشي. والله كنا انّام والقصف شغال..طب طاخ دف بف، دب وبب، طج طنغ شلاخ.. ولا معنا خبر..اتعودنا، عيشتنا كلها خربطة في خربطة..والله يمّه لما يكون الجو هادي والدنيا ساكتة وما في صوت بيصيبني القلق وما بعرف انام ... قوم يمه الله يرظى عليك..قوم احلق ذقنك وخوذ لك دش ساخن بتصحى وبتنعنش، خلّينا نفطر ع البدري، هلقيت بتيجي آمال وبتحضر النا لفطور..حضّر حالك، بنت خالك مريم تلفنت من شويّه وقالت إنها جاية، نفسها تشوفك، بتموت عليك مريم..قوم يمه قوم».