من الخائف مستوطن أرعن أم أنا؟..
في حارات البلدة القديمة في القدس عاندت والدي بالقول: "سأمشي لوحدي في السوق وأنتم اذهبوا للصلاة"، التفت لوالدتي مودعة إياها لكن ما وجدته خوفا تقوقع في مقلتيها ممزوجا بكلمات لم تخرج من فاهها، ثم ثوان ورحلت..
دخلت أزقة وأسواق البلدة، تمعنت بكل زاوية على أمل حفظها وأخذها معي، احتضنتها بقوة فاهتز سورها، لم يكن بي إلا أن أحتمي بعيدا تحت أعمدة إحدى البيوت مغمضة عيناي، وما بين الرجفة الأولى والثانية ظهرت الجميلة تتراقص بغبطة لم أراها منذ مدة، أصوات تكبيرات وتهليل وأجراس كنائس تقرع، أما الأرض مرسومة بقبعات صغيرة باتت سجادة للمارة منها لأن بعض الأجساد اختفت ..
صحوة أخرى "الله أكبر الله أكبر"، صلاة الظهر حانت، والحلم انتهى!
ما بين الأزقة وكثافة السياح؛ يظهر أمامك المتطفل السارق "المستوطن" بكل بقعة متمتما بغير المفهوم في كل ذهاب وإياب له، وكأنه دابة تحرث الأرض وتصهل في ختام السرب "خط الحراثة"، إنه ذاك البعبع في قصص الأطفال الخيالية لكنه حقيقي، الفارق الآن أننا كبرنا ولم يعد يخيفنا البعبع..
مشيت أردد قصيدة البرغوثي: "في القدس، رغمَ تتابعِ النكبات، ريح براءة في الجوِ، ريحُ طفولة، فترى الحمام يطِير يعلن دولة في الريح بين رصاصتين.."
كذلك عند بائع الحلوى يليه بائع الكعك المقدسي، لم استطع منع نفسي عن الامتزاج بروائح لم أعد أميز ماهيتها لكنها جميلة، روائح تحملك للطيران والتفرع هنا وهناك، كي لا تنسى شيئا أو ربما لتصرخ قائلا: "أنا هنا"!، مرة أخرى تعود لصوابك إنه صوت أحد الباعة المقدسيين، ترتسم على محياك بشاشه انتقلت تدريجيا منه إليك، تجد نفسك تبتسم قائلا: أحدهم رآني لم أمت بعد، يبدو أن موعد المزاعم لم يحن بعد، ففي القدس يحدث أن أحد المستوطنين غاضب من صديقته فنفس غضبه على فتاة أو فتى مقدسي، فصنع سيناريو ضعيفا يتضمن أن يصرخ ويهرع أحد المستوطنين، مدعيا أن الفتى كان يحاول طعنه فتزهق دمائه ويرتقي شهيدا، ولتكتمل الحبكة تلفق له سكينا "آلة حادة".
مزاعم إسرائيلية كثيرة ارتقى على إثرها الكثير وما باليد حيلة، إنه المحتل من تجبر بأطفالنا في السجون وقتل وبرر حرقه لعائلة فلسطينية كاملة، أما فعل دولة الاحتلال بحق القتلة هو تخفيف أحكامهم أو إضافة مزاعم جديدة، وفيما يخص حرقة قلب أم الشهيد وزوجته وسؤال طفله عنه لا أحد يسمع أو يرى.
وأنت في القدس عليك التحرك بسرعة لتغطي عيناك كل شيء، ففي حارة باب حطة ستسمع صوت بكاء لن ترى صاحبه أبدا ستشعر بالخوف لكن الأمر طبيعي، بالمحصلة سيهدأ البكاء ويحدثك صاحبه أن كنت محظوظا، ولا تخف لربما يكون طفلا قتله جندي إسرائيلي بالخفاء بالرغم أن قتل الفلسطينيين مبررا لهم أيضا.
حقيقة قبل سنين ولغاية الآن زيارة القدس كنت أقابلها بالرفض، لسبب بسيط أن فكرة الحصول على تصريح من دولة الاحتلال لدخول أي جزء محتل من أرض فلسطين كانت كالنار التي تحرق كل شيء حولي، والسبب الآخر أن الأمور معقدة بشكل مخيف، قاتلون يحيون بيننا ومتى شاء أحدهم قتل وضحك دون أي حساب، وفي كل مرة أجبر فيها على دخول القدس لسبب طبي أو تتملكني لعنات وحب واشتياقك، وفي كل مرة أقول: "هذا اللقاء مختلف".
أخيرا ما بين هشاشة قلبك الآن سيقابلك طفلا يركض بين المحال التجارية لكنه يعلم أن مصيره القتل أو السجن كما حدث مع غيره من شعبه، وما يخالك أن تصبح ملاكا حارسا له فيحيا كما غيره من الأطفال في العالم، لكن هل ذاك واقعي أم أنني عدت للأحلام مجددا؟