الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تجربة قصيرة مع "الاتصال بعدو خارجي"

2018-04-26 05:56:25 AM
تجربة قصيرة مع
طفل من غزة يضرب على بوابة أحد البنوك على اثر قطع الرواتب (تصوير: الحدث)

الحدث ــ محمد بدر

لم أكن أتخيل أن أرفع سماعة الهاتف وأحدث شخصا من قطاع غزة. ذلك لأنه في لوائح الاتهام العديدة التي وجهت إلي كانت غزة حاضرة تحت بند "الاتصال بعدو خارجي". كنت أفهم ما معنى عدو، غزة التي قهرت رابين ومن قبله صنعت لإسرائيل تاريخا من المعضلات لا بدّ وأن تُعاملها إسرائيل كعدو، ولكنني لم أجد تفسيرا لـ"خارجي". هل هي "دولة غزة" التي تعادي إسرائيل بحيث ممنوع علينا نحن سكان الضفة أن نتواصل مع مواطنيها؟ أم أنها خرجت على أمور لا نعلمها، ويعلمها الله والاحتلال.

مخرج واحد يفتح لك مجال الاتصال بأشخاص من غزة، هو أن تكون صحفيا، وأن تكون مكالماتك واضحة وشفافة وصريحة ولا تحتمل التأويل، فغزة "العدو" تُفهم دائما خطأ، تُفهم دائما خارج السياق، تُفهم كذلك كي لا تفهم، وتحاسب كي لا تحاسب.

العمل مع غزة من خارجها، ومتابعة قضاياها الداخلية، ورصد أحداثها، وقصص أطفالها، وشيوخها، ونسائها، ومصابيها، وصياديها، له أعراض جانبية خطيرة على نفسيتك، في البداية سيبدو لك كل شيء كارثي وتعيس، وسيبدو كل شيء غريبا، وستظن أنك ستخرج من ذلك المكان بآلاف التقارير الصحفية النوعية، ولكن..

ستصبح في نظرك كل مصيبة روتينة أمام مصيبة أخرى، وستصبح ميزانا للمصائب، وحكما للمآسي، تختار أبرزها وأكثرها بلاغة، فن جديد تتعلمه من متابعة قضايا غزة هو "بلاغة المصيبة"، حتى الموت يقع في ميزان تحكيمك، وبالتالي فإنك مضطر لأن تقوم بعمل تصنيف لطبيعة الموت، موت يتحدث وتم الحديث عنه، وموت يموت بلا حديث، وموت فيه حياة كثيفة. ليس كل الموت في غزة مزعج، أكثره رحيم.

بعد كل تقرير تعدّه من هذه القطعة، يصبح عنصر التقرير الحيّ، مادة حديثك لأيام، ومادة تفكيرك لأشهر، ومادة في الذكرى قد لا تندثر، وأمامك خياران لا ثالث لهما: إما أن تقتل مشاعرك على مدخل تلك المدينة وتدخلها كطائرة تصوير تجمع معلوماتك وتخرج، وإما أن تدخلها بكامل مشاعرك ووقتها لن تخرج منك تلك المدينة ولا عتمتها وستتحول لمصيبة بحد ذاتك.

ويحدث جدا، أن يودّعك مراسلك في غزة، أن يقول لك اهتموا بعائلتي إذا ما استشهدت، ويحدث أكثر أن يمنتج صورا له مع نشيد أو أغنية عن الموت والشهادة، ويحدث أن يقول الشهيد لزوجته قد لا أعود، وليس غريبا أن تتركه يخرج من البيت رغم توقعاته. هناك كل شيء يجري بمشيئة الموت وبخيارات عقاربه.

هناك عالم خارجي جدا، بالفعل، ولأول مرة تصدق النيابة العسكرية، هناك شعبا من الألم والنكسات، يحترق من أجل أن تبقى البؤرة الأخيرة من النضال مشتعلة.. وسيظل يخرج عن السياق، ويخرج على عجلة الكون معرقلا إتمام دورة كاملة من الهزيمة، الاتصال بتلك المنطقة يجب أن يبقى ممنوعا، ويجب أن تعاقب أكثر، غزة تحدِّ الله للحديد، واختيار القدرات والقدر القديم الجديد. غزة خرجت علينا وارتدت إلى التاريخ والجغرافيا. لذا ينظر إليها دائما أنها يجب أن تعاقب.