أربع سنين عجاف قضاها أبو نديم وأم نديم وأخوة نديم في ملاحقة شريرة لقاتل نديم
من محكمة لمحكمة ثم ملفات ثم شهود ثم أدلة ثم تفتيش على مداخل المحاكم وقبل ذلك استصدار التصاريح لدخول كل محكمة.
ومقابلات صحفية وأخبار هنا وهناك.
أربع سنين قضاها أبو نديم وحيدا يبحث عن أي دليل يثبت أن نديم قد قتل عمدا، فلم تكف شهادة وفاة ولا تصوير صحفي لعملية القنص ولا شهود ولا رصاصة اخترقت حقيبته وكتبه المدرسية لتستقر في قلبه الصغير، لم يكف كل ذلك لإقناعهم أن نديم قد قتل عمدا متعمدا.
أربع سنين من غياب أبدي لنديم.. لا ضحكة ولا شقلبة ولا قبلة ولا طاقية كاسكيت اعتاد لبسها وإلقاءها في أنحاء البيت.
يأتي آخر يوم ليسدل الستار على مسرحية العدالة الوقحة للنطق بالحكم على قاتل في محكمة القاضي والادعاء والدفاع فيها في طرف واحد وأبو نديم يبحث بيأس عن أدلة وأدلة ليصرخ بوجههم نديم ابني أنا أعرفه نديم لطيف مبتسم حنون مرح نديم ....
ويسألني أبو نديم "شفتيه"؟.. وأرد أنا "مين"، ويقول "القاتل، وأنا أرد "وين"، ويرد "كان واقف جنبنا على المدخل للتفتيش"
ويصيبني الذهول؟ ولا استطيع الرد.
تمتلئ القاعة الخارجية للمحكمة بالصحفيين يحملون كاميرات وهواتف نقالة وقلما وورقة، لاهثين بحثا عن خبر لا يلقى في جوفهم أي صدى سوى بضع كلمات يتلقاها متابعوهم دونما اكتراث. معظمهم إسرائيليون يغطون حدثا جللا لديهم! نعم ينتظرون بشوق سماع القرار.. هل يعقل أن يحدث؟ هل يعقل أن تتم إدانة ديري ؟ هل يعقل أن يتم حبس ديري وهو البريء ذو الذنب الوحيد أنه كان يتسلى بدماء شاب فلسطيني لا يزيد ولا ينقص عليهم في شيء؟
يتجمع الجميع أمام باب القاعة ويبدأون بالدخول.
يدخل المحامي الأنيق ذو البدلة الباهظة والشعر الأبيض المتهدل ويقف وقفة عنجهية
ويظن نفسه بطلا منتشيا بإنقاذ قاتل ذنبه الوحيد انه قنص فلسطينيا! فما هي قيمة حياة نديم عنده أو عند أمثاله؟
القاعة صغيرة ولو اتسعت لألف فهي لا تتسع لكم الظلم المتمثل في جريمة قتل نديم، والظلم الأعظم في مسرحية محاكمة قاتله.
وأبحث عن مكان في ثلاثة صفوف من المقاعد للحضور، دونما مقاعد المحامين والمتهم.
يجلس من جهة اليمين أهل نديم ومن جهة اليسار أهل القاتل، ولا أجد سوى موقعا في المقعد الخلفي بين الجهتين على خط النار.
وعلى يساري ثلاثة من ذوي اللحى يفيحون عنصرية، وتنطلق من أعينهم شرارة حقد تقول ماذا لو قتلناكم؟
ويحاجج الحراس ذوو القاتل ليدخلوا أكبر عدد من الحضور في استعراض قوة خبيث وكأنهم حضروا ليحيطوا حبيبهم القاتل بالحب والدعم على فعلته هذه.
ويقف هو في موقف المتهمين. يرتدي "بلوزة" سوداء تلتصق ببدنه مع بنطال أسود مشقوق عند الركبتين وحول عنقه تلتف قلادة ذهبية تلمع مع أرضية بلوزته السوداء، حلق رأسه بالكامل وأبقى لحية خفيفة ليظهر بمظهر يقول ببساطة أنا قاتل جميل وغير مبالي أنا "كوول".
تدخل أمه وأبوه وأصحابه وأقرباؤه
حضر الجميع وكان نديم غائبا.
يا لسخرية القدر والمشهد في دولة احتلال تحاكم نفسها "المتهم بريء حتى وان تمت إدانته فالقتيل فلسطيني".
الدقائق قاتلة والأمل العبثي يخدعنا بأننا قد نسمع ما يشفي غليلنا! ويحك أيها الأمل ! الم تعلم أن العدل هو الله فكيف تسرح بِنَا بحثا عن عدالة تائهة بين جدران العدو!
يدخل القاضي فيقف الجميع ويبدأ بقراءة قراره بسرعة غير معتادة من القضاة وكأنه يريد أن ينهي ملفا ثانويا بحيث يفرغ القاعة من ثقل خفي. ثقل حياة انتهت بيد من يقف أمامه دون أن يكون لهذه النهاية أي وقع لديه، فيبدأ بامتداح القاتل وتعاونه مع المحكمة وتقصيره وتوفيره التعب على المحكمة!!! نعم هكذا بدأ القرار ! يمتدح تخفيفه على وقت المحكمة قبل أن يصرخ أنه قاتل! لا يا أعزائي دعونا لا نخدع أنفسنا فهو ليس بقاتل أمامهم، إنه جندي وفيّ أمين خدم دولته بأن أنهى حياة فلسطيني مشؤوم آخر، ولتلافي الحرج نعقد مسرحية محاكمة هزلية علما بأننا لا نقيم للحرج وزنا. ويتلو قرار إدانة القاتل بتهمة القتل بالإهمال ويحكم عليه بالسجن تسعة أشهر وغرامة مالية لأهل "القتيل" خمسين ألف شيكل. لن أخوض في الحكم ولن أخوض في القرار فهو بحد ذاته انعكاس لما هي هذه المحاكمة، ولن يكفي حبسه ولو دهرا ليطفئ الشوق في القلب لنديم.
يسدل الستار على فاجعة تسكن قلب أهل نديم. يخرجون من القاعة على وقع دموع أم القاتل تبكي غيابه عنها بضعة أيام بينما تبكي أم نديم غياب نديم عمرا!
ويحك أيها الظلم
ويحك أيها الاحتلال
ويحك أيها القاتل
لم استطلع التقاط أي صورة لذوي نديم فلا اعتقد أن أي عدسة بإمكانها أن تتسع لكم القهر الذي يملأ قلوبهم وعيونهم، لا ادري إذا ما كان بإمكان أي عدسة أن تحتمل كم الظلم الذي تعايشه هذه العائلة.
يغادر القاتل القاعة متشحا بالسواد كالسواد الذي يملأ قلبه وقلب من معه بينما يرفرف جسد نديم بكفن طاهر ابيض إلى بارئه.
يمهل ولا يهمل