الحدث الثقافي
استيقظ من نومه الأبدي وبدأ في ترديد أغنية رائعة تردد صداها داخل البستان الأزلي الفسيح، ورقصت على أنغامها أوراق الشجر الأخضر. غادر بوابة السماء وهو يفرد جناحيه حتى غطى الشمس، وبين مخالبه كان يحمل نباتات المر والقرفة. يبحث عن أعلى نخلة شاهقة ليبني عشه، فدورة حياته قد اكتملت، وهاهو يجثم داخل عشه بهدوء ويصدح بصوت حزين. أدار عنقه للشمس، فتلألأت ألوانه القزحية، وأصبح لون التراب الذي يغطي ريشه أكثر صفاء ولمعانا وهو يشع ظلالا ذهبية. صفق بجناحيه بقوة مرحّبا بقدره، حتى اشتعلت النار فيهما، ولامست عنان السماء، ثم نظر بعيون دامعة وهو يرى جسمه يحترق حتى آخر نقطة بذيله الجميل الطويل. صدرت منه آخر تغريدة حزينة وتحولّ إلى رماد أسود.
قفز أيوب من سريره مذعورا يستعيذ بالله. طالت يده كأس ماء موضوع غير بعيد عنه على الطاولة. كان حلقه جافّا، وجبينه يتصبّب عرقا. فصائله ترتعد وقلبه يدق بسرعة كبيرة. نهض من مكانه يرتجف من كابوس جثم على صدره. كان هناك محلقا بالفضاء، طائرا حزينا، بوجهه الآدمي، وبمنقارٍ، وأجنحة ومخالب. كان هناك لصيقا بالشمس، يحترق حتى الرماد. هل نهايته وشيكة؟ وهل سيموت قريبا، وهذا إشعار بذلك؟؟ تذكّر أنه لم يعش الحياة بعد، لم يشتغل ولم يتزوج ولم يرزق بأطفال يدعون له بعد رحيله.
كان سنه قد تجاوز الثلاثين، وما زالت الدنيا تغلق كل أبوابها في وجهه. كدّ واجتهد وحصل على أعلى الشهادات، لكن كل ذلك لم يشفع له عند أرباب الشركات والبنوك للاستفادة من علمه ومعلوماته التي راكمها في الحساب والاقتصاد. لم يكن له ظهر يسنده أو قريب يدعمه، فالتحق مرغما بطابور الآلاف من الشباب المقهور في انتظار معجزة ما، قد تكون عصا سحرية تنزل على المحسوبية والزبونية وترمي بهما في قاع البحر.
سمع سعال أبيه الحاد بالغرفة المجاورة ووالدته تدعو له بالشفاء من مرض أقعده طيلة شهور وقيّده بسريره. سجين ألمه وآهاته، حتى الأدوية جافته، فغلاؤها وقلة ذات اليد دفعت بوالدته للبحث عن بديل لها بين الأعشاب والآيات القرآنية.
أصيب والده الحسين بالمرض الخبيث، وكان أخبث منه فقره وبؤسه. عرف لسنوات بعربة الخبز التي يدفعها كل صباح ومساء، وكان زبناؤه أوفياء لعجين زوجته فاطمة وخبزها اللذيذ، حتى أقعده المرض. حملت أمه فاطمة المشعل بعده، رغم سنواتها الستين وآلام الروماتيزم. كان أيوب ثالث الإخوة، وأوسطهم، والوحيد الذي تابع دراسته حتى حصل على شهادة الدكتوراه. كان نجيبا، وذا طموح كبير سرعان ما تكسّر على صخرة الظلم والفساد وسوء التدبير.
كان يحلم أن ينتشل والديه من فقرهم المدقع، ويستبدل بيتهم الصغير الذي عششت به الرطوبة حتى سكنت أضلعهم ببيت فسيح ذي نوافذ كبيرة لا تحجب الشمس أبدا. راسل العشرات من الشركات والمؤسسات والجامعات، وأجرى امتحانات ولقاءات باءت كلها بالفشل، بذريعة شهادة أعلى من المطلوب أو بإحالته على انتظار الجواب في القريب العاجل الذي لم يأت أبداً. كل الأجوبة ضيعت عنوانه، ولم يصل الرد أبدا.
أصبح أيوب محبطاً لا يرى سوى السواد. يخرج من الصباح ولا يعود إلا بالمساء، زاده جريدة يتيمة يبحث فيها عن مناه، قد يصادف حبيبة العمر، مهنة ما زال يبحث عنها بين أروقة المباني والمؤسسات وأعمدة الجرائد، لكنه لم يلتقها بعد..
ربّما ما يهون عليه قليلا أن أخته الصغرى تزوجت وأخوه الأكبر سافر إلى الشمال، يشتغل بتهريب البضائع. زياراته كما دريهماته قلّت بعد أن أصبح مسؤولا عن أفواه أخرى.
علا آذان الفجر، فاخترق الصوت الدافئ قلب أيوب حتى هدأ خوفه. تذكر أنه لم يصلّ من مدة طويلة. توضأ وصلى بخشوع حتى بللت دموعه سجادة الصلاة، ثم هادئا مطمئنا رجع إلى سريره. تمدّد وهو يتحايل على النوم، وسرعان ما حملته موجات النوم لفضاء الشمس والنخيل.
كان أيوب هناك رمادا يتلألأ تحت أشعة الشمس الذهبية. اخترقه شعاع حتى انتفض يرقة بيضاء وسط عتمة الرماد، تحولت لشرنقة، تحركت وهي تكبر وتزحف نحو الظل، وسرعان ما خرج منها طائر بديع جديد. نفض عنه الرماد الذي يغطيه. تنفس بعمق وأطلق صرخة الحياة. رأى أيوب نفسه وقد بعث من جديد، وخرج حيّا من الرماد، لم تنل منه النار ولم يندثر، بل بالعكس، هزمها، ولم تستطع تدميره والقضاء عليه. فرد جناحيه بعد أن استجمع قوته. جمع الرماد من حوله، وكأنه يجمع بقايا ذاكرته وذكرياته، وجراحه. حمله بمخالبه وطار في اتجاه الشمس وهو يشع نورا بعدما باءت محاولة إفنائه بالفشل...
كان أيوب مبتسما وهو يفتح عيونه بالصباح. قلبه يرقص أملا بعد أن بعث طائر الفينيق الخالد. أحسّ بتجديد كامل لمعنوياته وبروح الفينيق تلبسه. قبّل رأس والده ووالدته، وقرّر أن يأخذ مكان أمه ابتداء من اليوم. سيبيع الخبز وإن اقتضى الحال يتعلم كيف يعجنه ويخبزه. ربّما آفة المجتمع أن كل واحد يعجن الوطن بطريقته وغالبا ما يحترق الخبز، فأغلبيتهم متطفلون، لايفقهون في الخبيز.
لن ينالوا من عزيمتي شيئا، قال أيوب لنفسه بحماسة، حلمي إلهامٌ، بل رسالة غيبية تحثني على النهوض من جديد، ومحاربة قوى الشر والفساد بنور التحدي والإرادة.
وهو يتناول فطور الصباح مع والدته فاطمة، ويأكل من خبزها الطازج الطري، قرّر الالتحاق بالمعتصمين أمام البرلمان بعدما كان مبتعدا عن تجمعاتهم. اقتنع أَنَّ يداً واحدة لا تصفق، وبأجنحته الخالدة. سيصفق بها حتى تلتهب حناجرهم مطالبة بالحق في العيش الكريم.
لابدّ من التصفيق والصراخ ملء الرئتين حتى يسمع الغافلون صوت الوطن، وإذا لم يشفوا من صممهم المخزي. سيحمل بين مخالبه صخورا من الظلم والمآسي والمعاناة والبؤس التي يرزح تحث ثقلها الشباب الضائع المظلوم، ويرمي بها فوق حصون المسؤولين الذين يختبئون وراءها، حتى يرجّ كراسيهم ويكسِّر جذران لامبالاتهم وقد ينتزع بمنقاره الصمغ الملتصق بطبلة آذانهم، ويصدح بأغاني تخترق قلوبهم، وبنوره سيبدّد كلّ الضباب والعتمة.
قرر في يومه الأول وهو يبيع الخبز أن يتوجه بالعربة إلى ساحة الاعتصام. سيشارك رفاقه في الاحتجاج باسم الوطن، ويتقاسم اللقمة تحت سياط رجال الأمن، وهم يختبئون من وهج الشمس ويستريحون من تعب الكرَّ والفرّ. إنه طائر الفينق الخالد، مبدّد الظلام وقاهر النار والمستحيل. وإن اقتضى الحال سيحترق من جديد لتنبعث طيور أخرى من رماد الظلم، تصدح بالحق وتغني سمفونية الوطن.
كان يدفع عربته وسط الزحام ويصرخ بأعلى صوته، مطالبا بحقوقه المشروعة: الحق في الشغل والكرامة. انهالت عليه العصا من كل صوب وحذف. انقلبت العربة، وتناثر خبز والدته الطازج في كلّ مكان، لم يزده ذلك إلا تحديا لكل الضربات. واجه جلاديه بصبر وثبات.
_ لن تخمدوا صوتي، أنا الفينق، بعثت من رماد.
_ أنا الحق وأنتم الباطل، أنا الصدق وأنتم الكذب. أنا الحقيقة وأنتم الزيف. لن تستطيعوا تدميري، سأحلق عاليا وأغني بحقوقي حتى تتحقق.
علا صوت أيوب بقصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم:
_ "منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا أمشي".
وما هي إلا لحظات حتى كانت حناجر الغاضبين من حاملي الشهادات تغني مع أيوب لحن مرسيل خليفة، وكلمات سميح القاسم.
علت أصواتهم حتى رددت صداها جدران البرلمان الصماء القريبة من الاعتصام. جُنّ جنون الأمن. زاد هيجانهم وسعارهم، وهم يَرَوْن المحتجين، يغنون ويبتسمون. رأوا في ذلك تحدٍ صارخ لسلطتهم وسطوتهم. ضاعفوا الضرب، وانهالوا عليهم بكل وحشية حتى يخرسوا أصواتهم. اختلطت دماء الشباب بأصواتهم، زادت ملوحتها من حدّة غنائهم وصراخهم، وتضاعفت مرارة معاناتهم.
كان أيوب يمسح فمه من آثار ضربة هوت على وجهه. تناثرت معها بضع أسنان على الأرض وقطرات الدم اختلطت بخبز والدته الطازج، غير قريب منه حطّت حمامة تقتات من فتات الخبز المتناثر، وعندما رأت الدم قد امتزج به، دمعت عيناها وطارت حزينة على الخبز الذي بات ينزف دماً.
نظر أيوب إلى السماء هناك حيث الحمام والشّمس، ورأى نفسه يستعد للتحليق من جديد. يفرد جناحيه. يصفق بهما بقوة. يحترق، ثم من رماده يبعث من جديد. لملم جراحه، وتوجّه إلى جدار البوليس، يريد اختراقه والدخول إلى البرلمان. صوته لم يصل بعد لآذان أهل الكهف. كان يرى أن البرلمان قد استوى في زمن العهر السياسي إلى كهف مظلم. هوت عليه عشرات الركلات والعصي، وفي لحظة بَحَّ صوته. خفت إلا من أنينه، وكانت دموع السماء والألوان القزحية مع انعكاس الضوء قد امتزجت بدمائه، آخر ما رأى قبل أن يغمض عينيه ويغيب عن الوعي.
بعد ساعات طوال، تململ أيوب من مكانه. هاهو يبعث من جديد من رماد ألمه ومعاناته. تحسّس لفافة الضماد برأسه، وتساءل لم الظلام يخيّم على المكان؟ سمع صوت والدته المنتحب. مدّ يده، أمسكت بها وقبلتها وقبّلت جبينه. هدأ قليلا محاولا طمأنتها، قائلا:
_ لا تحزني أمي، سأخبز معك خبزا جديدا طازجا وأبيعه وسأغني حتى أنصف، وأسمع صوتي من به صمم، وسأعالج أبي، أشتري لك البيت وأمنحك أحفادا تلاعبينهم بالحديقة. لم لا تنيرين الغرفة أمي؟ _ أريد أن أرى ملامحك. اشتقت لعيونك الحنونة الطيبة...
صرخت أمه حتى أيقظت القطط النائمة تحت أَسِرَّة المستشفى:
_ إنه الصباح، حبيبي، أنت فاقد للوعي منذ البارحة. حملك أصدقاؤك إلى المستشفى. الغرفة مضيئة والشمس في كبد السماء.
- إذن؛ لتطلبي من الشمس أن تقترب أكثر، حتى أراها وأراك. الظلام الدامس يحيط بي ولا أرى غيره، وكانت دموع أمه حارقة وهي تمسح على وجهه وتقرأ القرآن، ثم صرخت تطلب النجدة. إبني أصبح أعمى، ماذا فعلتم به؟؟؟؟
كانت تبكي وتلطم وجهها وتصرخ. وقفت عاجزة أمام هول المفاجأة والصدمة، وكانت تفكر قبل أن يصحو كيف ستخبره بوفاة والده ليلة البارحة وهو غائب عن الدار. الآن تفكّر كيف سيدفن أباه وهو أعمى لم يعد يرى شيئا غير ألمه ومصابه.
امتقع لون أيوب وهو يسمع صراخ أمه. التقطت آذانه كلمة أعمى. مرّر يده أمام عينيه، لا يراها، فكّر للحظة، ثم محاولا تهدئة أمه.
_ لا تقلقي أمي، فعيون القلب تبقى مفتوحة لا تنام، سأرى، وسأبعث من جديد وقد أرى بعيون الوطن. آه أمي الحنون، نسيت أَنَّ وطني بلا عينين!!.