في عيون غزة
بقلم: غريب عسقلاني
قابلت غزة أخبار تشكيل الحكومة الجديدة، في الصحافة والتلفزيون والراديو من تصريحات مسؤولة وغير مسؤولة بابتسام من يقول «إلعبوا غيرها»، لأن غزة التي تقرح جلدها وهر بعض لحمها في السنوات العجاف، تؤمن بأنه إذا كانت المصالحة جدية، فإن كل شيء يصبح ميسوراً، وكل المهمات تنفذ حسب ما هو مرسوم لها، وأن الحكومة المشكّلة أداة انتقالية محدودة المهام والصلاحيات، فلا مجال إذن للتخرصات والتحفظات، والاستدراكات والمستدركات، ودس التشاؤم في دسم الوفاق، والأجدر بالمجموع الفلسطيني التعامل من الطاقة الكامنة في شعبنا المتحفز للتطوير والبناء والمشاركة الفاعلة في اجتياز المأزق الذي نعانيه.
ذلك كان القاسم المشترك في أحاديث الكتاب والأدباء والفنانين والمثقفين والمتابعين الذين اجتمعوا للاحتفال بالعيد الثالث عشر لصالون نون الأدبي، الصالون النسوي الوحيد في الوطن، والذي لا يتلقى دعماً من أحد، ويعتمد فقط على إمكانيات القائمات عليه، والذي أثبت حضوراً لافتاً في القطاع بنشاطه المتواصل منذ تأسيسه، قلت وكأني خطفت الكلام من رؤوس المجتمعين:
أن يكون في غزة صالون نون الأدبي، إذاً غزة بخير!
وأن يصمد هذا الصالون، فهو دليل على العافية الغزية، التي تنهض من رمادها كما العنقاء، فقبل ثلاث عشرة سنة، اعتقدنا أن هذا الصالون لا يعدو عن كونه نزوة عابرة لبعض المثقفات، في بيئة تقليدية محافظة ومتحفظة طاردة لأحلام الصبايا، لكن الأيام أثبتت أننا إزاء مُهر أصيلة يسابقن أفراس الميدان، ويحملن آمالاً مقرونة بالإصرار والإتقان، فأخذن على عاتقهن رعاية حالة أدبية ما كان لها أن تتطور إلا بهؤلاء الرائدات وهذا الملتقى، لذلك غزة المبادرة أجمل.
وأجمل ما في غزة، أنها لا تصبر على المراوغة، تعيش الحالة ولا تتستر عليها، تصبر وتسامح لكنها لا تغفر الخطأ، تنحني أمام العواصف والنوائب، ولا تنثني، وتكون صارمة عند الحساب، لها طبع الجنوب المجنون بعشق الحياة.
غزة لا تتجمل.
هي الغنية في أوج فقرها.
والمتخمة بالرضا في ظل حصارها، وجور محاصريها.
والصابرة على إيذاء ذوي القربي، وتبكيهم عند الجنوح.
ترقصت غزة على إيقاع المصالحة، وتعود إلى أغانيها تغربلها من عشب الكلام الضار، فهي الخبيرة في الفلاحة، العالمة بطقوس المواسم، العارفة أسرار البذور، لا تقبل بتهجين الأصيل، ولا تستنبت ما يعارض ثوابت الحياة.
غزة ترقص وتغني، محذرة:
لا وقت للمراوغة، ولا غفران للنكوص.
الوقت للجميع، ولا متسع للتحزب الفج والتشيع لأجندات غريبة، وانتظار فرص الانقضاض والتقويض.
لا وقت لتخدير الأتباع بغامض التصريحات، والحذر.. الحذر من ألاعيب البلبلة، لأن غزة مع الوطن كل أطياف الوطن، ولن تلهث يوماً خلف شهوات الفرد أو الشريحة أو الحزب والفصيل..
ولأن المصالحة للجميع، وبين الجميع لا مكان للمنتظرين، والمتحفظين، والمتبرئين سلفاً من الفشل، اللاهثين لأخذ حصصهم عند حصاد النجاح لأنهم شاركوا بسكوتهم المبطن.
غزه لا تنثني، وتبتكر وسائلها في الاحتجاج، من خلال تناغم وتنافر الإيقاعات، ففي السبع العجاف قدمت غزة أكبر عدد من الشهداء، وضحايا الاقتتال، وحققت أعلى نسبة في البطالة بين العمال والشباب خريجي الجامعات، وعانت من قضايا اجتماعية كثيرة، لكنها أفرزت أكبر عدد من المبدعين والباحثين في جميع المجالات، وشهدت مئات المعارض التشكيلة، وأصدرت عشرات الكتب في الشعر والقصة والرواية والمسرح وأدب الأطفال والأبحاث العلمية، وعقدت عشرات المؤتمرات، وشهدت صالاتها الفقيرة عشرات العروض المسرحية والسينمائية والموسيقية والفنية.
في غزة، قدم العمل الأهلي والمبادرات الفردية والجامعات، إنجازات، عجزت عنها أو تغاضت عنها الحكومة بسبب الأولويات، في مجالات كثيرة، وحازت على مئات الجوائز داخل الوطن وخارجه، وخرج منها قوافل من الشباب يمثلون كل فلسطين، ويتجاوزون التناحر والاقتتال لإيمانهم أن ما حدث محض سحابة صيف.
في غزة لكل داء دواء، لذلك غزة مهما طالها من تشويه، لا زالت تطهر بماء البحر وتمشط شعرها في وجه الشمس فتبرق في وجدانها الحقائق، مؤكدة أن للجنوب مذاقه، وأن للمعاناة وهجها الجميل.
أيها الناس، غزة هي بيت الرقاد على بيض الحلم، الذي يفقس زغاليل التفاؤل التي تبني أعشاشها في قباب القدس وعلى أسوارها العتيقة وتغني للحياة.