حين يُقرأ وضعنا بحياد تام، يبدو أننا نحقق ما هو قريب من المعجزة، وحين أدقق في العديد من الانجازات الفلسطينية، تمتلئ روحي بالثقة بأن رهاننا على قوة الإبداع في الحالة الفلسطينية هي أكبر وأهم ما يمتلك الفلسطينيون في صراعهم من أجل البقاء والتقدم وتقرير المصير.
الوضع السياسي من كافة جوانبه سيء للغاية، والانقسام الفلسطيني المتمادي، كارثة يمكن أن تدخلنا إلى موسوعة جينيس للأخطاء والخطايا القياسية، غير أن الصراع المجيد بين الخير والشر في مجتمعنا، بين النجاح والفشل، بين الإبداع والجمود، يسجل دائما نتائج مميزة لمصلحتنا، وحين طرقنا باب موسوعة جينيس بأمور ذات طابع رمزي فقد أدخلنا فلسطين عبر أكبر ثوب تراثي وعبر أكبر طبق كنافة وتبولة وقطائف، ليتعرف عليها وعلى شعبها متابعو هذه الموسوعة ويعرفون أن الفلسطينيين ليسوا مجرد ضحية وإنما شعب مبدع يستحق الحياة.
ولقد تطور الأمر إلى أقرب حدث اقتحم الموسوعة، ألا وهو الحوار الإذاعي الطويل الذي أداه باقتدار المذيع المبدع طلعت علوي، قدم للعالم أُمثولة يزهو بها كل الإذاعيين الفلسطينيين ويفتخر بها كل الفلسطينيين أينما وجدوا.
وبعد هذا الاقتحام الموفق لواحد من أهم المنابر الإعلامية في العصر، يصبح منطقيا توقع اقتحامات مماثلة في مجالات متعددة من مجالات الإبداع والابتكار والتفوق، وإذا كانت جينيس مقياسا على مستوى الكون كله والعصور الغابرة، فإن للفلسطينيين المحرومين من حقوقهم الأساسية بفعل الاحتلال والقيود الصارمة المفروضة على حياتهم وقدراتهم، يحققون كل يوم انجازا قد يبدو بالنسبة للشعوب الأخرى عادياً، يمر عنه مرور الكرام، فمثلا يبدو عاديا تماما أن يفوز منتخب كرة قدم بلقب أفضل منتخب قاري، ليأخذ هذا الخبر يوما أو يومين من الاحتفال والابتهاج ثم يُنسى، أما حين يحصل المنتخب الوطني الفلسطيني على موقع أفضل منتخب في قارة آسيا للعام 2014، فهذا معناه أن الإرادة والتصميم وقوة الابداع انتصرت حقاً على كل المعوقات، وقدمت للعالم قرينة دامغة على حقنا في دولة مستقلة نقيم عليها مؤسساتنا التي هي حاضنة الابداع في كل المجالات، وحين يحصل بنك فلسطيني حديث التأسيس هو البنك الوطني على المرتبة الأولى في البنوك الأكثر نموا في الشرق الأوسط، فذلك شهادة أخرى على أن مقومات الإبداع المالي والاقتصادي لدى الفلسطينيين خصوصا على أرض وطنهم قائمة ومتجسدة وحتى متفوقة، فمن يجرؤ والحالة هذه على أن يتهم الفلسطينيين بعدم القدرة على بناء دولة تكون إضافة نوعية للدول القائمة في المنطقة، أي ليست رقما تفرضه معادلة ما أو لعبة سياسية من أي نوع.
ولو دققنا في مسألة الابداع الفلسطيني منذ بداية نكبتنا حتى يومنا هذا، فإننا نجد ما يملأ مئات الصفحات من موسوعة "جينيس فلسطينية"، فحيث ما حل الفلسطينيون بنوا وأبدعوا وتقدموا، وإذا كانت دماء الشهداء قد روت شجرة البقاء الفلسطيني، فإن إبداع العقل والإرادة عند الأجيال الفلسطينية روى شجرة الحق الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وكل ما حدث على صعيد إنكار هذا الحق كان مجرد مسألة وقت ليس إلا.
القائمة تطول في الفكر والثقافة والفن والأدب، وليس من قبيل الصدفة أن ينافس محمود درويش على موقع أهم شاعر في الكون، وأن يحسم إدوارد سعيد اسمه كأهم مثقف في الولايات المتحدة والعالم، وليس صدفة أن ينبثق من جوف معاناتنا محبوب العرب الذي فاز محمد عساف، ومحبوب العرب الذي نأمل أن يفوز هيثم خلايلة، دون أن ننسى الصبية الحسناء صاحبة الصوت الجميل والاطلالة المشرقة منال موسى التي وصلت إلى موقع متقدم في أهم مسابقة فنية عربية.
وإن كان لنا أن نشعر ببعض الأسف فلأن هذا الابداع المميز تهرِّب مزاياه الهائلة الغرائز السياسية التي لم توفر حتى الآن حاضنة مؤسساتية كفؤة لهذا الابداع، كما تبدد كل يوم رصيد الفلسطينيين عبر انقسامهم واقتتالهم غير المبرر.
أخيرا... أنه الصراع الأبدي بين النجاح واعداء النجاح، بين المبدعين والمنغلقين على أجنداتهم ومصالحهم الضيقة، بين فلسطين التي تشدها خيول أصيلة إلى الأمام وتعرقل مسيرتها كمائن وحواجز نسأل الله أن يخلصنا منها.