بعض الأشخاص يكتبون التاريخ وفقاً لرؤيتهم وعلى طريقتهم وحسب انتماءاتهم.. والبعض يكتبه تقرباً إلى جهة معينة أو "مسح جوخ" طلباً لمنفعة شخصية.. وآخرون يندمجون شيئاً ما مع الأحداث ويحولونها إلى إحدى سيناريوهات بوليوود! ما أقبحك أيها التاريخ.. وما أقبح من يكتب حكايات لا تمت للواقع بصلة.. والتوقيت دائماً ما يأتي في صميم الحدث.. فيقضي على أي بادرة للاتفاق والوفاق.. وهذا ما يفعله كثير من المثقفين والكتاب.. يشاركون في عمليات القتل والذبح والتهجير دون دراية منهم أو عن تدبير مسبق منهم ولهم.. شاهرين أقلامهم في وجه شعوبهم.. ينظرون إلى الغرب وظهورهم لك أيها الوطن..!
مبدأ المؤامرة التي يتبناها الفلسطينيون حتى في مزاحهم وجديتهم وعلاقاتهم الشخصية، هي حقيقة لا تقبل شكاً فيما مر بهم من أحداث سياسية. أليس ما عشناه طوال فترة حكم الانتداب البريطاني وما تبعه من هجرة لليهود إلى أرضنا ومن ثم تهجيرنا وتقتيل شبابنا وأطفالنا ومحو قرى بأكملها وفتح باب الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية، هو مؤامرة حقاً؟ أو ليس تهجير معظم سكان مدن قناة السويس ومعظم مدنيي محافظة القنيطرة في سوريا، وصولا إلى حرب أكتوبر 1973، بعيداً عن فكرة النصر أو الهزيمة، ومن ثم فصل الضفة الغربية عن السيادة الأردنية، تلاها قبول العرب بمبدأ "الأرض مقابل السلام" منذ مؤتمر مدريد عام 1991، والخيانة العربية العظمى التي على أثرها فقدنا الوطن، نسيج خبيث من مؤامرة حيكت بليل..! إنها حقاً مؤامرة!!! وما نحن فيه اليوم هو حصاد 67.
في إحدى زيارات عمي سعيد هاشم ريان إلى بيتنا في عمّان، وهو من سكان قرية بيت دقو إحدى قرى شمال غرب القدس. جلسنا جميعاً عمي وأنا ووالديّ وإخوتي في الشرفة ذات مساء صيفي، "الحصلبان" الذي زرعته أمي تعبق رائحته ليلاً.. شجرة الياسمين التي تطل على المارين.. تشكو لهم غياب أختي منال عن البيت والحي والمدينة.. الحشرات الليلية التي عزفت وقتذاك لحناً لم يشتهر.. المقاعد الخشبية والعشاء الذي أعدته أمي.. كم كان الوقت لذيذاً.. آه.. لقد فعلتها الذاكرة من جديد! ولا يمكن أن أستشهد هنا بكلمات أجمل مما قاله جابرييل جارسيا ماركيز في الحياة، فإنها حقاً "ليست ما يعيشه أحدنا وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه".
كنت في تلك الجلسة العائلية أبلغ من العمر 10 سنوات تقريباً..أخذ عمي يحدثنا عن حرب 67 التي تعتبر ثالث حرب في صراعنا مع العدو الإسرائيلي.. يشرح لنا ما عاصره وشهد عليه خلال الأيام الستة من العمليات الفدائية وتحركات الجيوش العربية، وصولاً إلى احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس الشريف، أخبرنا كيف طلب بنفسه من الناس رفع الرايات البيضاء على أسطح منازلهم حتى لا يتم قصفها من قبل العدو.. وعدم تصديق أهالينا بواقع الهزيمة وصراخهم عالياً لعل العرب يسمعون صدى الأمل: إنه الجيش المصري!.. شعبنا الذي ظن أن القوات المصرية التي تحارب في سيناء ظهرت فجأة على مشارف القدس، وجيوشنا العربية في ملحمتها الهزلية ومعاركها الوهمية، والغرب الذي تآمر على منطقتنا من أجل مصالحه، كل ما تقدم يذكرني برواية ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا "دون كيشوت"، الرجل الخمسيني الذي قاتل ضد طواحين الهواء متوهماً أنها شياطين ذات أذرع هائلة اعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا، واندفاعه على ظهر جواده الهزيل ليواجه زحف جيش مغوار لم يكن في الحقيقة سوى قطيع من الأغنام! إضافة إلى العديد من المعارك الوهمية التي خاضها برفقة جاره سانشو بانثا الذي أقنعه أن يرافقه مقابل تعيينه حاكماً على جزيرة، وفي نهاية الرواية يقوم بعض الجيران بإلقاء القبض عليه وإعادته إلى قريته داخل قفص.. نعم لقد عادوا إلى قراهم ومدنهم وضواحيهم مشياً على الأقدام مطأطئين رؤوسهم، ترافقهم كلمات أغنية شادية "قوقوا لعين الشمس"!
هنا يؤكد عمي لأبناء القرية أنه جيش الاحتلال قائلاً: "البلاد سقطت".. يتوقف عن سرد القصة ليلتقط أنفاسه ليغص في كلماته القليلة.. تنهمر دموعه الغالية ويترقرق الدمع في عيني أبي (له الرحمة).. وكنت أتساءل آنذاك.. كيف يتمكن عمي من البكاء على معركة هزمنا فيها منذ سنوات بعيدة.. ألم نهزم في أُحد؟ لم لا يبكون أُحداً إذن!.. ولم هذا الحزن يخيم على محيا أبي كلما جاءت إلى أحاديثنا ذكرى 67..! لكني وبعد زمن.. وكلما وصلت في قراءاتي إلى هذه النقطة بالذات أو حتى مررت بنكبتنا يوماً أو بنكستنا.. أقرأ بين السطور كلمات عمي "البلاد سقطت".. فتنهمر دموعي أنا.. كان الجواب بسيطاً.. إننا جميعاً نبكي الوطن.. فلا بواكي له غيرنا..!
لقد عشت يا رفاق عمراً أبحث عن وطني بين الركام.. وما يزال الوطن فكرة لا أدري إن كانت قابلة للتطبيق يوماً.. أنا الفلسطينية التي أعيش في الشتات.. أقول للمهجرين الجدد أن لا بيت لي في هذا الشتاء وكل شتاء منذ خلقت.. وأن الجوع لا يسده مساعدات المنظمات الإنسانية وتبرعات المحسنين.. أنتم لا تريدون شفقة أحد.. كا لم نرد نحن أبداً.. عودوا وإن كان الموت في الانتظار فهو أرحم من مضيفيكم!
غريبة أنا وغريب شعبي في كل أوطاننا العربية.. لاجئة.. نازحة.. مغتربة.. مهاجرة.. كل الألقاب أحملها في حقيبتي الجاهزة للترحال.. ويحمل مثلها شعبي.. وأعترف بأني أغبط كل من ينام وفوقه سماء فلسطين.. وكل من يضمه ترابها الطاهر.. وإني وإن لم يعد أبي.. سأعود يوماً إلى وطني لأقر عيناً.. ربما حينها ينتهي موسم الحصاد.