تقريباً أود أن أعلن اليأس الشامل. وهو للأسف البديل الوحيد الذي أحوزه في مواجهة نظريات التفاؤل المطلقة والتي لا يردعها أي شيء يحصل باعتبار أن الحياة ممكنة من حيث المبدأ مهما جرى وحصل. وهذا النوع من التفاؤل كما لا يخفى على المستبصرين بالأمور يستند إلى حدس أنطولوجي عميق، ولا علاقة له بالتاريخ أو السياسة. إنه يشبه الحزن في مواجهة النهايات الفاجعة: هم أنطولوجي بشري لا يرتكز على معطيات الواقع المعاش في خضم المجتمع. هنا مثلاً يمكن أن ينتابني الأسى لمقتل جلادين من صفوف الأعداء قاموا بتعذيب أهلي أو أصدقائي أو تعذيبي شخصيا. هنا لا مجال للشماتة التي لا مكان لها مع الموت.
نخشى أن هذا هو على وجه الدقة منبع حكاية التفاؤل الفلسطينية المنتشرة منذ غرة أوسلو حتى الساعة. فالناس لم يعد يفت في عضدهم أية انهيارات تأخذ مكانها في واقع حياتنا المستلبة بنزع الأراضي والاعتقال والقتل والإذلال على الحواجز...الخ لكن ذلك كله لا يهم، إذ لا بد أن نهاية النفق تحتوي وعداً غامضاً وجميلاً من قوى ميتافيزيقية مرهونة بإرادة حكام البيت الأبيض وحكام شارع بلفور في القدس الغربية –أو الشرقية إذ أنى لي أن أعرف جغرافيا القدس التي لا أجرؤ على التطلع نحوها على الرغم من أنها تبعد عني أقل من نصف ساعة بالسيارة. إنها القريب/البعيد على حد تعبير أغاني العرب العاطفية.
لا أرغب في مراجعة التاريخ. فالأمريكيون عمليون ونفعيون وبراغماتيون نظرياً وواقعياً وقلباً وقالباً، ولا وقت عندهم للذكريات وجلسات "كوانين" النار الشتوية. إنهم يشتعلون بالسرعة القصوى التي لا تبقي فرصة لممارسة ترف التأمل أو الصبر أو القيام بالمراجعات. يريدون استغلال الوقت ونهبه حتى آخر ثانية وثالثة، بل حتى كل جزء من المليار من الثانية. لذلك لا نرغب في إضاعة الوقت، فالتاريخ مضى وانقضى، وما فات مات، وعفا الأمريكيون عما سلف. لكننا فقط نفكر في "مكان تحت الشمس" إن كان يحق لنا ذلك، أما إن كان هذا الحق كله ينتمي للماضي فلا داعي له. ومن هذا الباب نتساءل: هل يوجد بقية باقية من الأرض يقال لنا خذوها ونحن نضمن لكم نهائياً أن أحداً منا أو من أولادنا أو أحفادنا لن يمارس لعبة "قد مساحة الجلد قد" فأخذ يقد الجلد حتى ابتلع حبرون كلها. هذا أبونا إبراهيم المقدس أو هكذا هو إبراهيم كما يقدمه إرث التوراة ليتغذى عليه الغزاة المنتصرون في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان وليبيا والسودان الذي ازداد عدداً وعدة وأصبح له صولات وجولات في حروب خارجية على الرغم من أنه لا يقوى على تأمين حدود العاصمة أم درمان بالذات.
لا بد أنني خلطت الحابل بالنابل، ولا بد أن أنصار السلام لا يحبون ذكر العراق ولا سوريا، لأن نظرية السلام الفلسطينية تقوم فيما أحسب على أساس النوايا الأمريكية في إعطاء الفلسطينيين دولة في نهاية المطاف. وقد وعد بذلك كلينتون وبوش وأوباما ومسك الختام دونالد ترامب بالذات. وهو رجل " إيده طايله "، ولو أراد أن يملأ لنا البحر مقاثي ولوز وسكر لفعل، ما أعجزه عن ذلك معجز. لكن الرجل للأسف يغير نوياه طوال الوقت. مرة يعشق بوتين ومرة يغلق سفاراته في شمال أمريكا وجنوبها. وكذا يقول الشيء وضده فيما يخص فلسطين وأهلها، وهو ما يجعل الفلسطينيين التعساء يلهثون وراء الوعود المتتالية على الرغم من أن بعض الأقارب في السعودية قد كشفوا أن ما بقي لنا من أيام أصبح معدوداً بالفعل.
على الرغم من ذلك، يظن أنصار التسوية أن لكل أمر نهاية، وبالتالي فإن الوعود الأمريكية لا بد أن تنتهي في النهاية إلى شيء. والمطلوب فقط هو أن يقدم الفلسطيني ما يثبت أنه أهل للتعايش مع دولة إسرائيل المحبة للسلام. ونتذكر في هذا السياق مسلسل الأيام والأسابيع المطلوب من الفلسطينيين أن يمارسوا الهدوء على امتدادها مهما كانت أفعال إسرائيل الدفاعية مؤلمة لهم في بعض الأحيان. كثيراً ما يحدث في بعض الأحيان أن الفلسطينيين ينفذ صبهم ويضربون حجرا يثبت أن الإرهاب متأصل في طبيعتهم، ولذلك فلا بد من مزيد من الاختبارات حتى نتيقن من شفائهم النهائي من علل الهمجية والبداوة والغدر والميل إلى العنف. وهنا علينا أن أسجل مآثر البيض جميعا في تمويل آلاف المشاريع الهادفة إلى معالجة الفلسطينيين من أدران الشرور الإرهابية ذات الألوان والطعوم المختلفة.
المحزن في ملحمة التاريخ أنه درامي بكل معنى الكلمة، وهكذا يؤدي تطور الحدث/الحبكة إلى تغير النيات الأصلية مهما كانت مخلصة. وغني عن البيان أن المرء مهما أخلص في أيمانه المغلظة بخصوص المستقبل فإن مسيرة الواقع هي وحدها التي تحدد في النهاية ما سيفعله تبعا للقوة التي يكتسبها أثناء تسارعه في صيرورة الحدث. لذلك لا يركن العقلاء كثيراً إلى النوايا والوعود ويعملون على بناء الوقائع باتجاه يخدم تحقيق ما يريدون إن خيراً فخيراً أو شراً فشراً. ومن لا يفعل ذلك لن ينال شيئاً على الإطلاق حتى لو قدم خديه للصفع في اليوم عشر مرات متتالية. يبدو أنه لا فائدة أبداً من أن تكون مسيحيا في حياة البشر. لكن الغريب هو أن أحدا من الناس لا يجهل هذه البديهيات في حياته العملية، وخصوصا في الحالة الفلسطينية. فمن هو يا ترى المستعد للتنازل عن شيكل واحد من أرباحه لقاء مصلحة الجماعة أو البلاد أو ما أشبه؟ ومن هو الجاهز للتنازل عن نفوذه أو منصبه من أجل الإصلاح أو التنمية أو ما شئتم من أسماء سميناها نحن وآباؤنا؟ لماذا يا ترى نفكر في أن على إسرائيل وقادتها أن يشذوا عن " الطبيعة " الإنسانية الأنانية والجشعة والتي تدفع الأخ ليقتل أخاه طمعاً بأن يكون الميراث من نصيبه منفرداً؟
لم يتمكن الفلسطيني من فعل الكثير دفاعا عن حياته ووجوده على أرضه. وبغض النظر عن الأرقام المطلقة، فإن الارتفاع إلى مستوى الحدث لم يتحقق أبداً. بل لقد كان الفلسطيني أحياناً بعيدا ًعن الوعي المعقول بشروط ما يجري. لقد عبر محمود درويش عن ذلك بقسوة شديدة في قصيدته عن ماجد أبو شرار:
"صباح الخير يا ماجد
قم اقرأ سورة العائد
وحث السير
على وطن فقدناه بحادث سير"
لا داعي في الواقع للمبالغة. الشيء الأساس الذي فعلناه هو أن نموت وأن نسجن وأن نشرد، وأن نتحول إلى دياسبورا لا تقل عن مثيلتها اليهودية. وذلك كله معروف الأسباب من ناحية مبدئية: فنحن خرجنا من الحرب الكونية الأولى من عباءة تركيا القرون الوسطى لا نعرف من أمر الناس ولا من أمرنا شيئاً فوقعنا لقمة سائغة للمفترسات، وكان الذي كان.
الآن ما زلنا ضعافاً. لكن ذلك بالضبط يجب على ما يبدو أن يدفعنا للإقلاع عن محاولة التوصل إلى تسوية لمشكلتنا: نتنازل عن أجزاء من أرضنا بغرض أن نستبقي جزءاً يسيرا. لا أقول ذلك استهانة مني بالجزء المطموح إلى الاحتفاظ به إنما بالعكس لأن الجزء الأخير بالذات سوف يطير.
علينا أن نستعيد اللحظة الراهنة: إن أوسلو بالذات جاءت لتدارك ما يمكن تداركه ومنع الاحتلال من قضم الأرض شيئاً فشيئاً حتى لا يبقي لنا عند التسوية ما نأخذ بتغييره الأوضاع على أرض الواقع...الخ ترى هل نجح أوسلو في إنجاز ما وعد به؟ الإجابة دون لبس هي بالنفي. لأن ما جرى هو أن إسرائيل قد استغلت الظروف الجديدة لابتلاع ما تبقى لدينا مع فقداننا الكثير من التعاطف الدولي بعد أن أصبح لدينا دولة وجيش وعلم ورئيس ينبغي أن يتحمل المسؤولية عندما يخطئ أبناء شعبه. ترى هل يمكن أن نتخيل وضعاً أسوأ لو أننا ظللنا "عراة" من غير حماية الدولة العتيدة؟ أعني لو تحزمنا بضعفنا كوننا مجموعات مدنية تحت الاحتلال وتغطينا بلحاف السماء، ألم يكن الحال أفضل؟ اليوم ما هي الحلول على وجه الاحتمال الأرجح؟ أن نواصل لعبة الدولة التي لا وجود لها على أمل أن نصحو يوما لنجد أن إسرائيل قد أعطتنا أرضاً ما وسيادة ما تكفي لإقامة دولة ما؟ قد يكون ذلك معقولا. لكن ماذا لو صحونا يوماً لنجد أن إسرائيل قد أخذت الأرض كلها والموارد كلها والسيادة كلها بينما أبقت لنا المراكز والوظائف والوزارات وشارات الدولة على مستوى القول لا الفعل؟
عموماً التاريخ الذي لا يحبه الأمريكان أبداً يثبت أن الاتفاقيات التي أبرمت مع السكان الأصليين لم تكن تساوي ثمن الحبر الذي تكتب به، وقد قام البيض في المناسبات المختلفة بنقضها والانقضاض على "الهنود" وقتلهم دون رحمة حتى تم تطهير أمريكا نهائياً. ولا بد أن إسرائيل لن تتوانى عن فعل ذلك إن أتيحت لها الفرصة. لكن إذا كان المجلس الوطني مريض مثلما هو القائد عبد الرحيم ملوح فلا بد أن القضايا المثارة جميعاً لن تكون محط اهتمامه لأنه سينشغل في أمور عملانية "أكثر أهمية" من قبيل تحديد أسماء الزعماء الجدد للقيادة الفلسطينية إن كان هناك من نوايا تجديدية تضاف إلى ما رشح فعلياً حتى اللحظة.