الحدث- لبابة ذوقان
داخل مخبز قديم يعود بناؤه لقرابة التسعين عامًا في حارة الياسمينة في البلدة القديمة بمدينة نابلس، يمضي الحاج درويش أبو سمرة يومه في صنع الكعك التركي الذي كان يعرف قديما باسم (الألّيط)، والذي تعلم صناعته منذ نعومة أظافره، على يد شقيقه الأكبر "هنّود"، الذي تعلمه بدوره من أحد عناصر الجيش التركي في عهد الدولة العثمانية في بلاد الشام.
فمنذ ربيع عمره التاسع، اتخذ الحاج درويش هذا المخبز بيتًا ثانيًا له، وأصبحت صناعة الكعك بطريقته البدائية وطقوسه الخاصة جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، متمسكًا بطريقة صنع الكعك البدائية بكل تفاصيلها ومراحلها من العجين والتخمير والخبيز.
الداخل لمخبز الحاج درويش الملقب بـ"أبو الأمين" سيدرك من الوهلة الأولى كم من العصور مرّت على هذا المكان، فبناؤه القديم المماثل لمعظم بيوت البلدة القديمة، يروي لك حكايات كثيرة عن تاريخ "دمشق الصغرى" كما يطلق على مدينة نابلس.
سنوات عمره الـ78 لم تفلح بأن تسلب منه بسمته وروحه الشابة، وطاقته الجسدية التي تمنحه قوة تمكنه من الوقوف على قدميه متنقلا بين الطاولة التي يشكل عليها أقراص الكعك وبين "السخانة" التي يضع فيها صواني الكعك ليخمر، عدا عن الوقوف لساعات أخرى أمام بيت النار (فرن بدائي) ليخبز الكعك.
يروي أبو الأمين حكاية "الألّيط"، فيقول: "قديما كان يأتينا كعك (الألّيط) أو الكعك الشامي من الشام، وكان يتم توزيعه على الجيش التركي كتموين له خلال سفره وحله وترحاله، حيث إن هذا الكعك من الممكن أن يبقى لأكثر من عام، دون أن يتعفن، بفعل الخميرة التركية المستخدمة بصناعته، والتي لا تتعفن أو يتغير طعمها مع مرور الوقت".
ويتابع: "تعلم شقيقي الأكبر (هنّود) رحمه الله، صناعة الكعك من أحد الجنود الأتراك، الذي كانت مهنته الأصلية خبازًا، واستأجر هذا المخبز الذي لا زلنا نعمل فيه حتى اليوم، ولا زلت أصنع الكعك على الطريقة ذاتها التي تعلمناها من الجندي التركي، ومنذ ذلك الوقت لم يعد الألّيط يأتي من الشام".
يصمت قليلاً ويتجه نحو العجانة الأثرية، التي يفوق عمرها سنوات عمر أبو الأمين، ويفصل جزءاً من العجين ويرمي به على الطاولة التي يشكل عليها الكعك الدائري المكسو بالسمسم الأبيض بمساعدة ابنه الشاب أيمن، ويضعانها على صوانٍ تحاكي هي الأخرى قدم المكان.
وبينما يستمتع الحاج السبعيني بتدوير الكعك الذي يخرج بصورته النهائية وكأنه يخرج من آلة حديثة تشكله بصورة متطابقة، يكمل حكايته قائلا:"تعلم الكثير من الخبازين في فلسطين طريقة صنع هذا الكعك من مخبزنا، كما أننا كنا نبيعه في يافا".
وعن الخميرة التركية المستخدمة في صناعة الكعك، يقول أبو الأمين: "هي عبارة عن حبات من الحمص اليابس المقسم لأجزاء صغيرة، أرش عليها قليلا من الملح، وأسكب عليها القليل من الماء المغلي وأضعها في إناء وبمكان درجة حرارته تصل لأربعين درجة مئوية، لمدة 12 ساعة، وبعدها أضع بعضًا منها على كمية قليلة من الطحين والماء الساخن، لمدة ساعة، وبذلك تصبح خميرة جاهزة للاستخدام في عجن الكعك".
ويشير أبو الأمين إلى أن عدة مخابز في نابلس تشتري منه الخميرة التركية التي يصنعها، كونها تدوم ولا يصيبها العفن دون الحاجة لمواد حافظة، مضيفا:"هذه الطريقة تعلمناها من الخباز بالجيش التركي، ولا زلت أصنعها حتى اليوم".
وبعد أن يشكل الكعك الدائري ويَصُفه بالصواني، ويضعها بصندوق خشبي كبير مغلق، يوجد بأسفله غاز صغير يعلوه وعاء به ماء، ليتبخر ويوزرع الحرارة بالصندوق ويساعد على تخمير العجين خلال نصف ساعة، ليتم خبيزه بعدها في بيت النار.
يتابع أبو الأمين: "أخبز في بيت النار خمس صواني دفعة واحدة لمدة نصف ساعة تقريبا، وأقلب كل الكعك ليتم شويه على الوجهين".
وقال:"عندما حاولنا أن نصنعه باستخدام الطرق الحديثة اختلف الطعم، للطرق البدائية نكهتها الخاصة، وزباؤننا يرغبون بما نصنعه بأيدينا وليس بالماكينات".
ويلفت أبو الأمين إلى أن أحد أبنائه افتتح مخبزا بماكينات حديثة، ويصنع ذات الكعك بذات المقادير، إلا أن الطعم يختلف، وزبائن المخبز يلحظون الفرق بين البدائي والحديث، حسب قوله.
ويشير إلى أن زبائن المخبز الذي اشتهر باسم "الهنّود" يقصدونه من كل مكان في الضفة الغربية وخارجها، حتى أن زبائنه من منطقة الجولان المحتل، يأتون لأخذ بضاعتهم من هذا الكعك باستمرار، مفضلين "الألّيط" على كافة أنواع الكعك الموجود بالأسواق.
أما عن الفائدة والربح الذي يعود على عائلة الحاج السبعيني بعد مراحل العمل المضني في المخبز الأثري، يقول:"هذا المخبز اعتاشت منه عائلاتي أنا وأخوتي رحمهم الله، وبعد أن توافهم الله، وبقيت أعمل فيه، بقي هذا المخبز يعيل أبنائي الثمانية، وبفضل الله لم ينقص على أبنائي شيء طيلة حياتي".
ويعاون الشاب أيمن والده الحاج أبو الأمين لعدة ساعات في تشكيل الكعك، أما مراحل العجين التي يبدؤها الوالد منذ ساعات الفجر، والخبيز الذي يستمر لساعة متأخرة من الليل، فهي طقوس خاصة لا يتقنها إلا الحاج السبعيني، الذي يجد في هذه المهنة متعة لن يفهمها إلا من عاش في مخبز "هنّود" ولو لساعات قليلة، وتذوق من كعكه التركي الممزوج بأصالة المكان وتاريخه.