كُنْتُ وبمناسبة إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - عن المُضيِّ في تطبيق قرار الكونغرس بخصوص الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل – قد كتبتُ مقالاً في صحيفة القدس العربي الصَّادرة في لندن بعنوان: " دونالد ترامب يمزج الدُّبلوماسيَّة باللَّاهوت "وهو الأمر الذي حاوَلَتْ الدبلوماسية الأمريكية تجنَّبه طويلاً فيما مضى.. وقد كنت كتبتُ في ذات الصحيفة ولدى تولِّي ترامب مقاليد الرِّئاسة مقالاً بعنوان: " دونالد ترامب.. أفكار كبيرة ومشاكل أكبر "وهو ما نرى تجلياته بتواترٍ تباعاً حتَّى الآن.. لن أُعيد ما قلته في تلك المقالات، ولكن أودُّ هنا الإشارة إلى أنَّه ومنذ ذلك الحين - ومروراً بما جرى مؤخَّراً من تدشين إعلان نقل السفارة رسميَّاً بالافتتاح الاحتفالي المُفخَّم لمبنى السفارة الأمريكيَّة في القدس، وكذلك انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران - فإنَّ ما نراه في عهد دونالد ترامب هو التَّدشين النِّهائي لأسْرَلَةِ السَّياسة والدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة في منطقة الشرق الأوسط.
حول مفهوم أسْرَلَةِ السياسة الأمريكيَّة في منطقة الشرق الأوسط سنأخذ مثالاً مما يقدمه "حجاي رام " البروفيسور الإسرائيلي المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط؛ ففي رَصْدِهِ لسياقات الخطاب الإسرائيلي تجاه المحيط العربي والإسلامي بشكلٍ عام، وتجاه إيران – بشكلٍ خاص – ومدى تأثُّر الولايات المتحدة الأمريكيَّة بسياقات ومجريات ومنهج وغايات ذلك الخطاب.
فيما يتعلَّق بإيران – وبحسب رام - يختلف الخطاب في عهد الشَّاه – كحليف لإسرائيل – عمَّا بعده؛ فقد اعترى الخطاب الإسرائيلي التغيير العدائي المنهجي والانعكاسي تماماً ما بعد ثورة عام 1979 ، تلك الثورة التي أطاحت بحكم الشَّاه محمد رضا بهلوي، الذي كان صديقاً لإسرائيل وحليفاً أساسيَّاً للولايات المتحدة كما هو معروف، هو يشرح في ذات السياق مفهوم ما عُرِفَ بـ " حلف الهوامش أو المحيط " الذي أرساه دافيد بن غوريون، بين كلٍّ من إسرائيل وإيران وتركيا وأثيوبيا في مواجهة الرَّاديكاليَّة القوميَّة العربيَّة والنَّاصريَّة والشيوعيَّة ونفوذ الاتِّحاد السوفييتي في المرحلة الممتدة ما بين عقديِّ خمسينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي. فقد كتب البروفيسور الإسرائيلي "حجاي رام" المُحاضر الأساسي في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في النقب في مطلع خاتمة كتابه النقدي – أو الانتقادي – وهو الكتاب الذي استهدف مناقشة الخطاب الإسرائيلي التنميطي والمليء بالثُّقوب، والمحكوم بكثيرٍ من الجهل أو التَّجاهل المتعمد للحقائق أو القليل من المعرفة تجاه إيران، وقد حمل كتاب رام عنوان: " قراءة إيران في إسرائيل – الذات والآخر، الدين والحداثة "يقول حجاي رام في سياق استعراضه للبداية الفعلية والمنهجيَّة لأسْرَلَةِ السياسة الأمريكيَّة بشكلٍ كامل، وتحت فصلٍ بعنوان:
" بعد الحادي عشر من أيلول 2001 ينبغي إخضاع عرفات، والعراق وإيران كمجموعة كاملة واحدة ".. يقدم حجاي رام ذلك في سبيل التحليل النهائي – والتحليل الانتقادي - لحصيلةٍ طويلة من سياق الخطاب الإسرائيلي المُمنهج والانفعالي الذي يركِّز على تعريف إسرائيل لنفسها، وتقديمها لنفسها كطليعة وكمؤسسة رساليَّة ثقافيَّة غربيَّة حضاريَّة في الشَّرق المتوحِّشْ!
ينقل "حجاي رام" في مطلع هذا الفصل من كتابه أقوالاً لـ "أفرايم إيتام" في ذروة الانتفاضة الثَّانية، وبعد انهيار بُرجيِّ التوأم في نيويورك، و"إيتام" بالمناسبة انتُخِبَ رئيساً للحزب الدِّيني الوطني "المفدال" بعد إدلائه بتلك الأقوال بأسبوعيْن فقط، وقد ضمَّه أريئيل شارون على الفور إلى حكومته كوزير دولة وكعضو في المجلس الوزاري الأمني المصغَّر، كانت أقول إيتام التي ينقلها رام في كتابه على النَّحو التالي:
"إذا لم يتم كبح جماح عرفات فإنَّه سيرتبط بإيران.. وسيقود جهاداً لتحرير القدس. كما أنَّه قد يخلق ما يُشبه التجمع الإسلامي المتطرِّف الذي سيكون من جهة مُسلَّحاً بأسلحة الدَّمار الشَّامل، ومن جهة ثانية سيعمل على وجود إرهاب داخلي مكثَّف في داخل الدَّولة.. وأنا لا أعتقد أنَّه يتوجَّب علينا استخدام أسلحة الدَّمار الشَّامل. إلَّا أنَّني أعتقد أنَّه لكي لا نصل إلى ذلك – أيْ إلى استخدام أسلحة الدَّمار الشَّامل ضد القوى المعادية – فيتوجَّب علينا إخضاع عرفات والعراق وإيران كمجموعة متكاملة واحدة، وأنَّه من غير الممكن التَّباحث معهم، ومن غير الممكن التَّصالح معهم؛ بل يتوجَّب إخضاعهم".
ومثل هذه الأقوال هي في الحقيقة غيضٌ من فيضِ الخطاب الإسرائيلي المؤدْلِجِ، والمؤدْلَج الذي يستهدف التَّماهي مع أفكار كان قد أطلقها " صموئيل هنتنغتون " واستثمارها في كتابه صراع الحضارات – على سبيل المثال - وتبنت رؤاه إدارة جورج دبليو بوش في تلك المرحلة. وبهذه الرُّوحيَّة استمرَّ الخطاب الإسرائيلي حتى الآن.. إنَّه وكما يقول " رام " في مطلع كتابه أيضاً: " خطابٌ استقطابيّ؛ يُنْذِرُ بيوم القيامة الذي سوف تنشبُ فيه معركة بين نوعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ من البشر، الإنسان الإسلامي، والإنسان الغربي، الذي هو أيضاً مسيحي/ مسياني – يهودي، وهو خطابٌ مُشبَعٌ بالتَّناقضات، هش وغير ثابتْ ".. وهذا الخطاب بطريقة أو بأخرى أسهمَ ويُسْهِمُ في أسْرَلَةِ السياسة الأمريكيَّة تجاه قضايا المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينيَّة، ضمن مجهودٍ احترافيٍّ يأتي في سياقٍ مؤسَّسٍ على تمثيلاتٍ استشراقيَّة ومثيولوجيَّة توظَّف سياسيَّاً وكلونياليَّاً في سياق الأسرَلَة التَّامَّة للسياسة الأمريكيَّة في المنطقة!