معلقة في فراغ الفضاء.. فوق غيوم كثيرة وفي محيط يبدو موحشاً، ويزداد وحشة باتساع رقعة مخاوفي، غياب لكل ما أنسته، صخباً أو شراً وحتى خيراً، فراغ متخم باللاشيء، فقدٌ.. أو لعله حضور الخوف، وبازدياد نقصان الأمان تزداد حدة الإيمان.
فراغ.. فراغ.. فراغ، ولاشيء سواه، لا تضيف له أنفاسي إلا هيبة ورهبة، يزحف بكل رقة اللون وسطوته، يلفني بالأسئلة أولاً، ثم، شيئاً فشيئاً تتماهى الأسئلة مع سديم اللا جدوى، ويكبر صفاء النفس بتلك المساحة الشاسعة من غياب الأجوبة. بحر لا نهاية لزرقته. فراغ.. أدرك الآن أنه هو الذي يعطي لموجوداتنا قيمتها ومعناها، ويؤثث أمكنتنا المزدحمة بالنواقص، ويرتق على حين إرادة طبيعتنا الإنسانية المعتادة على تمزقها.
أنا التي أحاول دائماً العثور على أي مشهد بحري يتيح لي التأمل بزرقته المسترسلة.. ها أنا أحدق في المدى وأحلم بمد يدي خارجاً، أريد أن أتحرش بالهواء.. أن أعبث بقطن الغيوم التي كنت ومازلت أعتقد بأني أمتلك بيتاً فوقها، أحمل إليه من أشاء ووقت أشاء وكيفما أشاء، بيت تفتح نافذته الغربية على غيمة، والشمالية على احتمال مرور غيمة، وبابه لا مصاريع له، فقط عنوان للدخول.
وسط جنوني وحلمي وأنا أقفز شغباً أستعيد حيويتي التي افتقدتها فوق يباس الأرض.. أتوسل الريح أن تنفخ الآن لتسوق المطر، لأرى كيف يكون وأنا أنظر إليه من علٍ؟
الفراغ يثير في نفسي الكثير وأنا أستمتع بعري السماء الذي يستفز خيالي ويبني لأحلامي قصوراً فاخرة. يمتد سوط الفضاء ليجلدني استعلاءً وغروراً.. ولم لا، فهو سيد الموقف وأنا أزداد حيرةً وتأملاً بجمال هذا الفراغ الغارق بامتلاء كل المعاني الجميلة.
هناك على الأرض، البعيدة جداً الآن، ازدحام الثرثرة والطرقات، أناس وعبث، تواريخ مؤجلة، انتظارات معلقة، أعياد، هدايا حب وعشق، أمل وفراق، لقاء وبكاء وفرح، هواتف ورسائل والتقاط صور لتحنيط اللحظات كي لا تذوب في فراغ الذاكرة، هناك أيضاً، على الأرض، أرض ما عادت تتنهد، وجبال كسرت الأقدام شموخ قممها، وغابات تتأهب للعري. هناك، قلوب مكسورة لا تجد نبضاً يطبطب عليها، وعيون يكسوها الخفوت.
وهنا.. حيث لاشيء سوى فراغ.. لا تواصل سوى في دقات قلب ممتلئ بكل شحنات الحب.
وأنا في قلب هذا الفراغ العاشق أعترف بأنه يكملني ويقلل من نقصاني، يكسر حواف خطاي المتأرجحة، يحرّضني على التمرد ويحثّني على الابتعاد عن "نصف الدفء" و"نصف الموقف" و"نصف الحقيقة"، نحن المتخمون بالنواقص وأنصاف الأمور. تداهمني الأميال وتتعاظم في عيوني معاني الحياة ويمتلئ عقلي بالأسئلة، لطالما كان الفراغ عدو الطمأنينة، كما الحياة نقيض الموت وفي كل لحظة يزداد الاقتراب من شتى الاحتمالات..
ما أثمن اللحظات حين اقتراب احتمال الموت..
وما أجمل الحب حين اقتراب احتمال الفقد..
وما أجملك وأنت تقف على حافة العطر، تمسك بجوارحك، تلمها في ضمة، تنفض عنها الريبة، وتضعها على شباك قلبي مزهرية تشي بسقوط المطر.