الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في أزمة الإنتاج التبعي: البطالة وانتشار الجريمة والأمراض الاجتماعية

2018-05-25 12:47:04 PM
في أزمة الإنتاج التبعي: البطالة وانتشار الجريمة والأمراض الاجتماعية

إعداد: ناجح شاهين

تتحدث منظمة العمل الدولية، وجهاز الإحصاء الفلسطيني ووزارة العمل ووزارة التعليم عن عجز السوق المحلية عن استيعاب الخريجين. ويتم تشخيص المرض المتمثل في وجود بطالة واسعة لا نظير لها، والأرقام تتحدث بنفسها: 30% عموماً أو 46% في أوساط الشباب أو 90% في أوساط الإناث أو 70% في أوساط خريجي العلوم الطبيعة في مقابل 60% في أوساط خريجي الإنسانيات...الخ ويبدو بالنسبة "للعلم السائد" أن علينا أن نتساءل عن عدم انسجام التخصصات المطروحة مع احتياجات السوق. ولكن أحداً من ممثلي الفكر الليبرالي لم يشر في أي وقت إلى قطاع أو مهنة واحدة تعاني من نقص العمالة في السوق الفلسطيني، وهذا المسكوت عنه في نص الخبراء، يعرفه القاصي والداني، وفحواه أنه لا يوجد في واقع الحال أي نقص في أي قطاع، وأن البطالة تشمل أوجه الاقتصاد المحلي كله. ولذلك فإننا بالتأكيد في مواجهة أزمة بنيوية بالمعنى الكامل للكلمة. لنتذكر هنا أن اليوم الأسود والانهيار العظيم في العام 1929 قد رافقه نسبة بطالة وصلت إلى 26%. بالطبع هذا اليوم الأمريكي الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه أهون بما لا يقاس من يومنا الفلسطيني المستمر منذ أزيد من عقدين دون أن يبدو على أحد من أهل الاقتصاد الرسمي الليبرالي بعض التفطن إلى وجود مشكلة بنيوية. ولا بد أن من قرأ شيئاً من تاريخ الولايات المتحدة قد اطلع على التغيير الثوري الذي تبنته الدولة الأمريكية في الثلاثينيات عندما تخلت عن "حرية السوق" وتبنت معايير كينزية في الاقتصاد من أجل المساهمة في إخراج البلاد من الأزمة. في بلادنا يدور حديث كاريكاتوري يموله البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية عن مواءمة الخريجين مع احتياجات السوق الموهومة. أما واقع الحال كما نراه فسوف نحاول تقديمه بإيجاز في الفقرات التالية.

تجتاح الوطن فوضى وأعمال نصب واحتيال وجرائم متنوعة تشمل القتل والانتحار لا سابق لها في تاريخ بلدنا الصغير. وليس في وسعنا أن نستغرب شيئاً من ذلك في ظل الأرقام التي يقدمها مسح الإحصاء الفلسطيني الذي لا يضيف في الواقع شيئاً يذكر إلى معلومات المواطن العادي التي يحصل عليها من ملامسته للواقع بالذات. أما ما قد يغيب عن المواطن فهو الأسباب الجوهرية للصعوبات التي يعيشها. هنا يبرز الجواب العاري البسيط صادماً إلى درجة مريعة: ليس هناك في فلسطين إنتاج بالمعنى الحقيقي في أي حقل على الإطلاق، وقد تراجعت مساهمة الزارعة والصناعة بالأرقام النسبية والمطلقة تراجعاً محزناً في العقدين الأخيرين. وانتقلت فلسطين إلى مصاف الدول المتقدمة من ناحية تصدر الخدمات قطاعات الاقتصاد القومي من دون أن تمر بالتشبع في اقتصاد الزراعة أو أن تمر بثورة صناعية من أي نوع. ولعل تفسير هذا اللغز ليس مستعصياً: ففي الوقت الذي يزدهر فيه قطاع الخدمات في العالم الرأسمالي المتقدم مستفيداً من فائض كبير في الزراعة والصناعة ومنتجات التكنولوجيا الهائلة، يزدهر قطاع الخدمات الفلسطيني معتمداً على رواتب الموظفين التي يدفعها الممول الغربي للسلطة الفلسطينية ومنظمات ما يعرف بالمجتمع المدني على السواء.

في ظل الوضع البائس اقتصادياً وتراجع الحلم بإمكانيات التحرير الواقعية وتحقيق الحقوق الأساسية للشعب العربي الفلسطيني بما فيها حق العودة، انكفأ المواطن الفرد نحو همومه الخاصة في أبسط أشكالها: وأصبح جل الاهتمام مركزاً على تلبية الحاجات الغريزية وما يلزمها من نقود. وعند هذا الحد تبلر حس عام فحواه أن "الشاطر بشطارته" وهو ما أدى ويؤدي إلى إباحة المحرمات والمحظورات كلها في سبيل الحصول على الغنيمة صغرت أم كبرت. وهكذا غدا الاحتيال والنصب والسرقة والسلب والنهب والارتشاء مواضيع شائعة على ألسنة الناس على نطاق واسع. وتكومت القضايا في المحاكم والشكاوى لدى دوائر الأمن والشرطة والمباحث... ولا بد أن رؤية الناس من مدنيين وعسكريين ومعايشتهم لنمط استهلاكي نخبوي يسلب العقل والفؤاد، يحرك غرائز الأنانية في داخل الأفراد الذين يشرعون في اغتنام أية فرصة ممكنة من أجل الحصول على شيء من الرفاه مهما كان الثمن. ولا يبدو أن هناك ممارسة رادعة من أي نوع. وربما رداً على ذلك، وفي ظل غياب الردع القانوني، انتشرت سبل الانتقام الشخصي بما في ذلك العدوان الجسدي الذي يصل حد القتل. وبسبب أن المرأة هي الحلقة الأضعف في النسيج الاجتماعي الفلسطيني يبدو أن نسبة القتل ترتفع في نطاق هذا الشطر من شطري المجتمع ليكون عليه تسديد جانب أعلى من فاتورة الانفلاش الأمني والضائقة الاقتصادية والأزمة القيمية التي لا نظير لها في ماضينا القريب على أقل تقدير.

في سياقنا هذا تأتي الأفكار الليبرالية  لتطالب بتعديل التعليم ليتلاءم مع احتياجات السوق، ولكن المفارقة المحزنة هي أنه لا يوجد احتياجات في السوق من أي نوع. ربما لذلك يطالب البعض بإنتاج خريجين مدربين منافسين في السوق العربية والدولية. وهو اتجاه ينحو إلى تفريغ الأرض الفلسطينية عن طريق تصدير العمالة الفائضة إلى الخليج وشمال العالم. ولكن ذلك بالطبع غير ممكن إذا ترك الأمر للمنافسة الحرة: إذ كيف يمكن أن تنافس اليد العاملة الفلسطينية المدربة وغير المدربة نظيرتها المصرية أو السودانية أو اليمنية أو المغربية ناهيك عن الهندية والبنغالية والفلبينية، عندما يكون مستوى التضخم والأسعار في فلسطين أعلى بكثير من تلك الدول الشقيقة وغير الشقيقة، بينما فرص التدريب أقل بكثير مما هي عند المنافسين المزعومين؟ لا جرم إن الفلسطيني سيطلب أجراً أعلى مع كونه يتمتع بتدريب أقل، ومعنى ذلك أن الطريقة الوحيدة لحصوله على فرص المنافسة إنما تكون في وجود قرار سياسي بضرورة استيعاب العمالة الفلسطينية لاعتبارات سياسية تخص أمن إسرائيل أكثر من أي شيء آخر.

يقترح البعض فكرة تشجيع الريادة أو "الريادية" وهي ترجمة "غير مستقرة" بشكل كامل لفكرة يروجها التمويل في بلادنا هي فكرة ال Entrepreneurship بوصفها إحدى الطرق لمواجهة المشكلة المتمثلة في الارتفاع الهائل في نسب البطالة وأعدادها. لكن يظهر من المعلومات الإحصائية أن هذه الفكرة لا تجد تطبيقاً واسعاً لها في أوساط الشباب الفلسطيني. ومن البين بذاته أن هذه الفكرة تنتمي إلى عالم "الحلم الأمريكي" بموارد قارة غنية في حاجة إلى البشر ومبادراتهم في أرباع القرن العشرين الثلاثة الأولى، بينما لا مكان لها في سياق "الكابوس" العربي بما فيه الفلسطيني الأكثر بؤساً في ظل الاحتلال وغياب الموارد والأسواق والإمكانيات جميعاً.

ولا بد بالطبع دائماً من ذكر النوع الاجتماعي أو "الجندر"، لأنه موضوع عزيز على قلوب المؤسسات غير الحكومية المحلية والعالمية على السواء. للأسف تشير الدراسات المسحية إلى تراجع مساهمة النساء في سوق العمل. أما الحل فيأتي من النوع الذي تسميه اللغة الإنجليزية ب lip service ويتلخص في تشكيل "اللجنة الوطنية لتشغيل النساء." غني عن القول إن اللجان ليست هي الطريقة الأفضل لخلق فرص العمل. ولنتذكر هنا أن بريطانيا في فترة الثورة الصناعية قد شغلت الرجال والنساء، بل واحتاجت أن تشغل الأطفال مهما كان ذلك مناقضاً لحقوق الإنسان والطفولة وما شئتم من مبادئ. بعد عقود، لم تعد بريطانيا راغبة ولا قادرة على تشغيل الأطفال بسبب انتهاء تلك المرحلة لمصلحة الآلة والحاسوب والثورة التكنولوجية من بين أمور أخرى. نحن دخلنا مرحلة البطالة الواسعة قبل أن نبدأ مشوارنا التصنيعي ومن قبله المشروع التحرري.

مع ذلك يصر البعض على الحفر الدائم في العلاقة بين السوق ومخرجات التعليم. ويقول البعض أحياناً إن الحصول على طبيب جراح أسهل بكثير من الحصول على "سباك". وهذا المثال المتطرف مدهش بالفعل، لأن هناك ما يشبه الإجماع على تدني الخدمات الصحية في بلادنا. وذلك ما يقود إلى الإشارة إلى التحويلات الطبية التي يشقى الفقراء من أجل الحصول عليها وقد يموتون قبل ذلك، بينما يحصل عليها المحظوظون بطرق أخرى! هناك بالطبع ملف الأخطاء الطبية الواسعة الانتشار والتي لا يتسبب فيها الفائض في الأطباء المهرة على الأرجح خلافاً لقصة الجراح والسباك المشار إليها أعلاه.

لا بد بحسب التوصيف الذي تتضمنه الفرة الأساس للحل الليبرالي من إخضاع التعليم لاحتياجات سوق العمل. وبمعنى آخر لا بد من إخضاع نمو القوى المنتجة لاحتياجات علاقات الإنتاج السائدة التي تشكل بوضوح معوقاً صريحاً لنمو هذه القوى لأنها علاقات إنتاج تبعي تقوم على نمو طبقة برجوازية تبعية يتحقق غناها من الاستيراد (والقليل من التصدير) في سياق اقتصاد يعتمد إجمالاً على المساعدات التي تأتي في سياق الريع السياسي لا أكثر. من المؤسف هنا أن التعليم الفلسطيني قد هبط هبوطاً حاداً على الرغم من توسعه الكمي بسبب عدم احتياج السوق لأية مهارات تقريباً. وهو ما يؤدي إلى أن تكون الوظيفة البسيطة في قطاع الخدمات، أو قطاع الوظيفة العمومية أو منظمات "المجتمع المدني" في متناول مهارات الخريج الجامعي أياً كان تخصصه أو التدريب الذي "لم يتلقاه". وقد نجم عن ذلك ظاهرة ليست بالمحدودة فحواها أن الوظائف ذات "المنحى الإنساني" يقوم بها في أحيان كثيرة مهندسات ومهندسون وفنيات وفنيو مختبر على حساب خريج الإنسانيات الذي يصادف أن تكون لغته الإنجليزية –الضرورية جداً في السوق الفلسطيني- رديئة، ومهاراته العامة أدنى من نظيره خريج المواد العلمية بسبب معادلة علمي-أدبي السيئة الصيت. وعلى الرغم من ذلك، فإن البطالة في قطاع خريجي العلوم الطبيعية أعلى بحسب أرقام الإحصاء الفلسطيني مما هي في قطاع خريجي الإنسانيات. ولا بد أن هذا يجب أن يصدم المواطن العادي الذي يستمع طوال الوقت إلى كلام يلوم جامعات مثل القدس المفتوحة لأنها لا تخرج إلا إنسانيات لا تلائم الاحتياجات العملية ليتضح أنه على الرغم من قلة أعداد خريجي الطبيعيات إلا أن استيعابهم غير ممكن. السر طبعاً موجود في بنية الاقتصاد التبعي التي تخلو من الإنتاج لمصلحة الخدمات مما يجعل فرصة الإنسانيات –خلافاً للأوهام- أعلى من فرصة الطبيعيات، بل يصل الأمر، في أحيان كثيرة، إلى انتقال الخريج/ة من التخصص العلمي البحت في مرحلة الدراسة الأولى إلى كلية إنسانية في مرحلة الماجستير من قبيل المرأة، وحقوق الإنسان، والإدارة، والتنمية، لأن فرص هذه التخصصات أعلى في الحصول على وظيفة. ربما يجدر في هذا السياق اقتراح أن يقوم جهاز الإحصاء الفلسطيني بدراسة مسحية لأعداد الخريجات والخريجين الذين انتقلوا من تخصص علمي إلى تخصص إنساني مع بحث دوافعهم التي يمكن توقعها، لكن ذلك لا ينفي فائدة الأرقام في مثل هذا الموضع. في إطار موضوع التعليم ذاته، يعبر البعض عن أسفه لعدم إكمال جزء من الطلبة الفلسطينيين تعليمهم، لكنهم بعد قليل يعودون للقول بأن الخريجين يفيضون عن حاجة السوق، ولا بد أن أنه من حسن حظنا العاثر أن ذلك الجزء من الطلبة لم يكمل الدراسة لأنه يخفف الضغط والمنافسة التي وصلت حد الاختناق بالفعل!! هنا لا مفر من الاستنتاج دون مواربة: هناك عجز بنيوي في النظام الاقتصادي الفلسطيني التبعي، وظاهرة الفائض في الخريجين هي ظاهرة وناتج، فتراكم الخريجين في صفوف البطالة ليس هو مشكلة الاقتصاد والسوق الفلسطيني وإنما هو العرض الملموس بسهولة لأزمة بنيوية في اقتصاد لا ينتج، ويغتني أغنياؤه من قطاع خدمات يعتمد في تسديد فاتورته على الرواتب التي يدفعها الممول الخارجي. تخيلوا عظم المصيبة –مع أننا نعيش المصيبة- في حال توقف التمويل لسبب أو لآخر. لا بد أن الرجل لن يقتل زوجته، وإنما سيقتل أولاده أيضاً!!، وهو يراهم يتضورون جوعاً أمام عينيه بينما لا يجد رغيف الخبز الذي يقيم أودهم... فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى هي محرك مثل هذه الظواهر وغيرها، لكن برامج "الحكومة" تخلو من السياسات الساعية لحلها، بل أن سياسات السوق المفتوح المنفلت من الضوابط كلها، وعدم الالتفات إلى وضع أسس الإنتاج هي في صلب المشاكل والهموم التي كان يجدر بالسلطة أن تتصدى لمواجهتها.

من الغريب في هذه الحالة أن يصر الخطاب الفلسطيني الرسمي ذو النبرة العالية على أن الشباب والخريجين الجامعيين هم ثروة الوطن الوحيدة في غياب الثروات الطبيعية. لأن حالة الاقتصاد الراهن تسببت في العكس: لقد تحول الشباب الذي يفترض أن يكون ثروة إلى عبء على بلده، وأسرته، بل وذاته. وأمام هذا يظل هناك أمر من أمرين: أن نشرع على الفور في تعديل بنية الاقتصاد جذرياً، مع التوقف عن نمط الاستهلاك المريض بما فيه من إشاعة ظاهرة سيارة في كل بيت –وربما أكثر- ومطعم وملهى في كل مائة متر –وربما أكثر- وسلع استهلاكية مستوردة وضارة لا لزوم لها –من قبيل السجائر والشوكلاتة..الخ- ثم الاتجاه نحو التزريع والتصنيع بما تسمح به شروطنا الفعلية. أما الأمر الثاني -الذي قد يكون أسهل في التطبيق وأكثر توافقاً مع احتياجات السوق ومن يقف عليه ووراءه- فلا بد بالفعل من البحث في أنحاء الدنيا المختلفة عن مناف لشبابنا، ثم لا بد من إغلاق الجامعات على الفور بسبب دورها الخبيث في إغراق السوق بالخريجات والخريجين بدون أن تلائمهم مع احتياجات السوق التي يمكن اختصارها بصفر من الخريجين وفي أي تخصص يمكن تخيله!!

هنالك بالطبع مخارج وهمية تقدم عادة بغرض إصلاح نظام التعليم، وقد سمعنا وزير التعليم ذاته يتحدث بهذا الشكل مرات عدة. ويركز ذلك مثلما يتضح في مثال السباك (في اللهجة الفلسطينية: المواسرجي) على ضرورة الاتجاه نحو التعليم المهني. ومن نافلة القول هنا إنه لا يوجد أدلة إحصائية ولا غيرها تشير إلى قطاع مهني معين يحتاج إلى عمالة. ولا بد أن الكثير منا يدرك أن القطاعات المهنية ليست في حاجة إلى تدريب يمتد إلى سنين، وأنه في حال وجود جوع في قطاع معين، فإن ردة الفعل لدى جيوش البطالة الواسعة ستقود –بحسب قانون العرض والطلب الرأسمالي الشهير- إلى هجمة واسعة في ذلك الاتجاه تؤدي إلى ملئه، وتكوين الفائض فيه خلال أشهر إن لم يكن أسابيع معدودة. ربما يجدر بأولياء الأمر أن يفكروا بوصفتنا أعلاه: تعديل أوضاع السوق بما يؤدي إلى خلق فرص العمل عوضاً عن التلهي بتغيير التعليم والتدريب وما إليه عندما لا يكون هناك فرص عمل من أي نوع. وفي هذه النقطة بالذات يمكن الإشارة إلى واقعية الاقتراح الذي يرى ضرورة البحث عن أسواق خارجية للخريجين، لأن في ذلك –على الأقل- إقرار مبدئي بأن المشكلة إنما تكمن في عجز الاقتصاد الفلسطيني، وليس في وجود أعداد من الخريجين أو حتى من البشر الذين قد يذهب المرء -في حال تبني أفكار القديس مالتوس- إلى القول بضرورة قتلهم من أجل إعطاء السوق فرصة للتعافي من أعبائهم!!

لا يمكن تجنب الانطباع أن الكثير من "البحث" واللقاءات والندوات والمؤتمرات الممولة التي لا عدد لها في بلادنا إنما تأتي في سياق إدارة الأزمة مع التظاهر بالبحث عن حل لها على طريقة الولايات المتحدة في حل قضية الفلسطينيين وحقوقهم القائمة على قدم وساق منذ عقود، لكنها لا تتقدم قيد أنملة إلا باتجاه قرض المزيد والمزيد من الأرض الفلسطينية. وهو ما توجه ترامب بتشريع احتلال القدس وتشريع المستوطنات. هنا أيضاً في سياق الواقع الفلسطيني الاقتصادي لا يوجد في جعبة "الخبراء" حلول جدية، وإنما هناك وعود بالحلول يتلوها في كل عام جديد حلول مستنسخة من سابقتها إلى ما لا نهاية. وفي هذا السياق يتفاقم المرض وأعراضه في النطاق الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي. من ذلك بالطبع ازدياد البؤس والفقر بمعدلات كبيرة لا تستطيع بداهة إلا أن تعبر عن نفسها في الحلول الفردية (الريادية؟) القائمة على الجريمة بأنواعها. ثم تأتي الانفجارات الفردية الناجمة عن العجز في مواجهة الضغوط، فترتفع نسبة الانتحار والقتل بما في ذلك قتل الشخص الذي يستفز المرء حضوره أكثر من الآخرين وهو في هذه الحالة الزوجة التي قد يظن الزوج أنها السبب في فقره ومعاناته. وتترافق هذه النزعة الأخيرة مع تردي الثقافة الشعبية في نظرتها إلى المرأة لتجعل منها أصل الشرور والنقائص مما يسهل على الزوج أن يحولها إلى كبش فداء للأزمة الاقتصادية والقيمية التي يعيشها. ولو كان هناك أفق للنمو الاقتصادي يستوعب عمل المرأة والرجل لتحسنت أوضاع الجنسين. ولكن الاختناق بأزمة بنيوية حاولنا وصفها علاه يقود إلى ردة باتجاه القيم القروسطية فيما يخص المرأة، مما يهون من شأنها بوصفها إنساناً، ويحملها وزر الأوضاع المتردية في عيون الرجال الذين يظن الكثير منهم في سذاجة تامة أن خروجها إلى سوق العمل هو الذي يحرمهم من الفرصة على الرغم من أن مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل هي الأدنى.

لأسفنا الشديد تسهم أنشطة الكثير من المنظمات التي تركز على الجانب التراثي والثقافي في إشاعة الوهم بأن المشكلة يمكن أن تحل عن طريق التوعية أو سن القوانين. وإذا كنا بالطبع لا ننكر أهمية الفعل الثقافي والقانوني وما لف لفهما إلا أننا لا نستطيع أن نحلم بتغيير وضع المرأة، ولا معالجة سرطان الجريمة الذي بدأ ينتشر في الجسد الفلسطيني عن طريق الوعظ بقيم الليبرالية في وقت يجد الناس أنفسهم ملقون في غياهب الغيب أمام تراجع العالم الدنيوي عن القيام بواجباته والوفاء بالتزاماته تجاه حقهم في حياة كريمة. لقد حضرت المرأة وحقوقها في الستينيات والسبعينيات في مصر والمشرق العربي في ظل انتشار التصنيع والإصلاح الزراعي ونهوض قيم الوحدة والتحرر، ولكن نكسة الانفتاح في مصر و "اللبرلة الاقتصادية" في باقي البلاد العربية –وهو ما يحصل في فلسطين المحتلة منذ عشرين سنة- أدى إلى نكوص يذكر بالعهد التركي العثماني.

لا بد من الإعلان على الملأ ودون مواربة: إن أزمة المجتمع الفلسطيني (إضافة لأزمة مشروع التحرر الوطني)، الحالية أساسها اقتصاد لا يقوم على الإنتاج، ويترابط مع الاقتصاد "الإسرائيلي" والعالمي برباط التبعية البنيوية التي تجعله اقتصاداً "يهدم الإنتاج، ليبني المطاعم والملاهي، ويستورد أحدث منتجات الجنس والتعذيب والويسكي،" على حد تعبير الراحل محمود درويش. مثل هذه الأزمة تتطلب موقفاً سياسياً نحو الاقتصاد يقوم على إعادة الاعتبار للإنتاج وكبح الاستيراد السلعي وفك الارتباط باقتصاد الاحتلال والاقتصاد الاستعماري كله.