الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"وبقي البرغوث" بقلم: بسام جميل - لبنان

قصة قصيرة

2018-05-25 02:05:27 PM

صباحاً وفي كل يوم،  تبدأ مراسم حفل الاستحمام الكبير. تبدأ جموع الناس بالتعري والوقوف أمام منازلها بانتظار وصول تلك الطائرات الصغيرة التي تنثر حمولتها من البراغيث الآلية . آلاف منها في كل طائرة تحوم فوقنا، وعشرات الطائرات الصيادة تساند هذا العرس الفج.

تدخل البراغيث في كل زاوية و تفحص غبار البيت كأنه واحد  من سكانه، وتضيئ بالأخضر اذا عجزت عن ايجاد شيء، أما إذا حدث واستطاعت التقاط بقايا خلايا جلد ميت لأحد المطلوبين في الغبار أو على ظهر وسادة فتنهال آلاف البراغيث فوق تلك الاجزاء اللامرئية بالنسبة لنا، تحللها، تصورها وتبحث عن نسخ منها في المكان لترسم خارطة طريق لذلك الأثر.

كم عمره، متى سقط، أين؟ كم عمر صاحبها؟ .. تجمع كل هذه المعلومات لتقارنها مع ماسحات الجسد التي تأخذ بمسح أجسادنا العارية وتدقق حتى بما تحتويه أمعائنا، فإذا وجدت ما يدل على برتقال أو زيتون فهذا يعني أننا نتعاون مع ارهابيين يقومون بسرقة أراض المستعمرات وتهريبها إلينا .

كنت صغيراً جداً، لا أبلغ الرابعة من العمر عندما رأيت الطائرة الصيادة تفترس أخي، هوى وهو يصرخ صرخة مخيفة من شدة الألم. وفي لحظات ظهرت آلات أخرى حضرت لتحمل جسده و يغيب عنا إلى الأبد .

بلغت الرابعة عشرة الآن . أقرأ كل يوم في ذات الكتاب، الكتاب المقدس الذي نجى من بطش حروب كثيرة، آخرها كان عدمياً، بعد أن انتهى عصر الكتابة. أخبرني أبي أن كل ما بقي من مخلفات الحرب الأخيرة تم حرقة أو إعادة تدويره، لقد استهلكت الحرب كل شيء إلا المعادن والنار ! وبالطبع البراغيث التي أخذ سكان المستعمرات يزيدون من انتاجها للبقاء على حصارنا وتطويعنا دون تكلفة .

عندما صحوت وقمت بخلع ملابسي تنبهت لفض شهوتي فيها. كان علي أن أغسلها قبل أن تتنبه أمي للأمر، أمر مخجل بحق . ربما حلمت بفتاة ما، لا أدري إذا هذا ما حدث فأنا لا أتذكر أحلامي أبداً .

وقفت في الطابور، كنت أعدّ كل من يقف في هذا الطابور، ربما عاد أخي .

كلنا عراة، رجالاً، نساءً، فتية وفتيات، وحتى الرضع، يجبرون الأمهات على تعريتهم لفحص برازهم والتأكد مما يتناولون، حليب الأم يفرز أفضل مكونات من طعامها خلال أيام فإذا كان هناك خلل في نظام البراغيث جعلهم يخطؤون في الفحص فالضمانة في براز الأطفال وحليب الأمهات .

نحن أسرة صغيرة نعتمد في معيشتنا على بعض الأعمال اليدوية التي يقوم فيها أبي في المستعمرة الرابعة ، وأنا أعمل بجمع الحطب وبيعه ونقل الماء .

صديقي الوحيد هو برغوث بحجم ظفر الاصبع . قدمه لي أبي وأنا في عمر الثامنة، برغوث معطّل، قطعة معدن تعرّضت لصعقة كهربائية أحالته خردة عديمة النفع، قيل إن بعض المقاومين تمكنوا من اسقاط طائرة براغيث بعد أن أصيبت بخلل ميكانيكي وعندما قاموا بتجريدها من دروعها، وجدوا البراغيث خاملة، رموها في خزان ماء معدني وعرضوها لتيار كهربائي عال حتى أخذت تنفجر كحبات البوشار. وكان ذلك بداية عهدهم مع الضربات الموجعة لأسلحة المستعمرات .

طمرت معظم البراغيث تحت الأرض، لكن الشبان احتفظوا ببعضها لتكون دليلاً حسياً ليقنعوا الناس بقدرتهم على المقاومة .

تعودت التحدث إلى البرغوث واستفزاز بعض الفتية فيه، أنه من مقتنيات أخي الذي أعتقل. ربما بهذا أثبت اتهام سلطات المستعمرات أنه يناصر أو يدعم المقاومين، أو أنه أحدهم، أحد المخربين كما اعتاد مسؤول منطقتنا أن يخبر العامة.

حتى حدث أن أوقفني أحد المسؤولين المحليين مستفسراً عن ذلك الشيء الذي أعرضه على الفتية ويستفزهم. في البداية أخذت أتحدث إليه بأريحية تامة فأنا أعرف ابنته، لكنني للحظات تذكرت أن أبي قد حذرني من الحديث عن البرغوث . ترددت للحظات ثم أخبرته أنني أوهمهم بأني أملك قطعة معدنية نادرة، لكن الذي في يدي حجر. في كل مرة أخذ حجراً من الأرض وأقبض عليه بشدة فلا يستطيعون تبيان ما في يدي فيثيرهم الفضول فحسب .

تركني الرجل وعلامات الاستهجان بادية على وجهه. بدا أنه لم يصدقني . تركته ومضيت في سبيلي . كان علي أن أنقل الماء من متجر قريب كان زبوني يبعد أكثر من ميل، فأخذت أدفع المستوعب المليء بالقوارير. كان بإمكاني عبور الطريق المعبد لكنني افضل دوماً الإلتفاف للطرق الترابية رغم أنها أطول مسافة بقليل لكنني استمتع بخلوتي مع صوت تدافع الماء داخل القوارير، بعيداً عن صخب الشوارع المأهولة .

بلغت أعلى التلة التي تطل على المستعمرة الرابعة . كان الجدار الذي يحيطها هائلاً وكنت أستطيع رؤية تلك الوحوش المعدنية التي تحرسها من النقاط التي تعلو الجدار وحتى تلك التي تقف كجدار ثان أمام البوابة الحمراء الكئيبة، كنت أرى انعكاس الشمس على هيكلها المعدني وأراقب بحذر تلك الحوامات التي تغطي سماء المستعمرة .

لا أشجار حولها ولا في الطريق إليها، ولا حتى أسلاك شائكة كتلك التي أخبرني عنها أبي وكانت تحاصر كل شيء، لا حواجز بشرية أيضاً فنحن لا نرى سكان المستعمرات بل فقط البراغيث التي تستطيع لمسنا، والآلات التي تتحدث بأصوات مضحكة .

عندما بلغت نهاية التلة، فاجأني صوت أفزعني فتركت العربة تنفلت من يدي لتتدحرج وحدها أمامي، ارتميت أرضاً وبدأت أبحث في السماء فوقي عن مصدر ذلك الصوت، وخلال برهة لمحت إلتماعة جسم غريب فتتبعتها حيث انتهت تهوي داخل المستعمرة . صوت انفجار ضعيف بلغ مسمعي لكن لا أدخنة تتصاعد من هناك. بدأت بالجري بأقصى ما استطيع و تركت العربة ورائي على قارعة الطريق .

عند المساء وبخني أبي على ترك العربة التي استعادها حيث وجدها في طريق عودته للمنزل. كان مرتعباً من كل الاحتمالات التي خطرت برأسه عندما وجد قوراير الماء والعربة . أخبرته بما حدث فاشتد ارتباكه وأخذ ينادي على أمي : لقد بدأ الأمر مجدداً .. علينا أن نكون حذرين، لا تغادري المنزل لأي سبب كان .

  • ما الذي حدث؟! قالت أمي .
  • لا شيء.. لا شيء.. لا تغادري المنزل غداً ولا ترسليه للعمل أيضاً .

لم أفهم ما الذي يقصده أبي وما الذي يخشى أن يحدث لنا في اليوم التالي . لم أرى وجهه قلقاً بهذا الشكل من قبل، لا أتذكر ملامح وجهه عندما فقدنا أخي لكن ساورني القلق أيضاً ولم استطع النوم في تلك الليلة .

سمعت صوت ضجة خارج غرفتي في وقت متأخر من تلك الليلة فزاد ذلك من قلقي، وبدأت أتقلب في فراشي، دون جدوى من هزيمة القلق وإعلان نصر النوم .

خرجنا عراة، كلٌ يعرف مكانه في هذا الطابور المقيت، كلٌ يدرك جيداً أن الارتباك هناك يعني الاختفاء بعد تلك الصعقة المفزعة . انتشرت البراغيث كعادتها وبدأت تتحسس كل شيء حولنا، وبدأت يديّ بالتعرق. كنت أشد قبضتي دون انتباه مني ولم أدرك أنني أكاد أعصر تلك الحشرة المعدنية التي سهوت عنها في يدي طوال الليل.  عندما وصل دوري لتقوم الآلة القذرة بمسحي، كان أبي ينظر إلي بارتباك، تبادلنا النظرات وهو يراقب العرق المتصبب من جبهتي، ويدي المنقبضة .

اطلقت البراغيث أضوائها الحمراء، فاهتاجت مئات منها لتتبع تلك التي استنفرت  الطوارئ . بدأ طابور العراة بتبادل النظرات المرتعبة فبدت واضحة تلك النظرة على وجه إحداهن تشد رضيعها إلى صدرها و يناها تكاد أن تخرج من مكانها، كأنها فقدت قدرتها على البكاء أو الصراخ من شدة الخوف على رضيعها .

صعقة حاسمة لكنها صامتة هذه المرة، هوى جسد المرأة فوق رضيعها فتناولتها آلات النقل وسحبتها دون أن أعرف أي منها ما الذي وجدته البراغيث .

في المساء وصل بعض اصدقاء والدي لمنزلنا، و قدمت امي طعام العشاء لهم ثم انصرفت لغرفتها. كنت أتأمل تعابير وجوههم وأكاد أجزم أنهم لم يأتوا للعشاء فقط.

طلب مني والدي أن أذهب للنوم ففعلت ، دخلت غرفتي وجلست متكوراً قرب أخي الصغير الذي يغط في نومه الهانئ، ربما يستيقظ يوماً ما ويشهد على سقوطي أمامه دون أن يستطيع فهم ما يحدث أمامه!

سمعت أبي يخبر أصدقائه أن سقوط الطائرة في المستعمرة ينذر بالشؤم، يبدو أن شباب المقاومة عادوا لنشاطهم.

  • لا أظن أن هذا ما يحدث، ربما خلل فني أصابها و هذا كل مافي الأمر .أجابه أحدهم.
  • لا أظن أننا سنحتمل أن ينهار كل شيء الآن، لا يمكننا تحمل غضب المستعمرات علينا . أجاب أبي .

أبي جبان! كدت لا أصدق أن أبي يجيب بهذه الطريقة، كنت أرى بريق عينيه الفخورتين أثناء قصه لي كل تلك الأخبار عن المقاومين وما كانوا يحاولون فعله. هل أبي جبان حقاً أم أن فقدانه لأبنه البكر جعله يخشى علينا من تبعات هذه المعركة؟!

ربما في زمن آخر، كان أبي أن يدفعي لأكون مع المقاومين، لكنه قرار شخصي الآن . كيف لي أن أفعل ما يفعلونه ؟!

طلبت من أبي أن أغادر إلى أحد المخيمات، أعرف أنهم هناك ينشغلون بأمور أهم مما ننشغل بها نحن هنا قرب المستعمرة. كان علي أن أقطع الطريق من البيرة إلى القطاع التاسع، قرب بيروت، هناك وهنا لا فرق مع وجود كل هذه المستعمرات، لكننا فقدنا المخيمات هنا، مسحت عن الخرائط. في ضواحي بيروت يوجد ثلاث مخيمات، هي كل ما بقي منها. لا أعرف كم كان عددها لكنني سمعت أنهم أكثر شراسة في مواجهة المستعمرات، ربما لأنها مستعمرات فرنسية تختلف عما لدينا هنا .

وافق أبي أن أغادر بعد أن استطاع تأمين الطريق الأفضل لذلك من خلال أحد أصدقاءه. كان واضحاً أن قراره الذي لم يتردد به، له علاقة بذلك اللقاء مع أصدقائه، خشيته أن يفقدني جعله يعجّل بمغادرتي.

وصلت بيروت بعد رحلة قصيرة، وصلتها كعامل حقول بحسب الرخصة التي منحتني إياها سلطة المجلس الأممي. لا تختلف كثيراً عن الرخصة الزرقاء التي يحملها أبي للعمل في المستعمرة الرابعة.  لم يسمح لي بدخول المخيم فالترخيص يخص منطقة أخرى للعمل بها ولا يوجد بها مخيم، منطقة البقاع سهل ممتد ليصل القطاع التاسع بالرابع عشرة قرب الحدود مع الدولة الكردية .

كانت المرة الأولى التي أرى فيها البحر، ذلك الفيض الهائل من البراغيث العملاقة المنتشرة فوقه، طائرات مذهلة وجزر عائمة عجيبة. بدا لي كأنها طواحين هواء تشبه التي صنعتها المستعمرة ووضعتها على أعلى تل في رام الله، كانت مهبطاً للطائرات الصيادة .

كان القطار يسير بسرعة 200 ميل في الساعة فلم تكن رؤيتي للبحر لأكثر من دقائق قليلة .

في صباح اليوم التالي، قمت بخلع ملابسي كعادتي وخرجت من مهجع العمال ووقفت بانتظار أن تصل تلك الطائرات للمسح اليومي. انتظرت قرابة الربع ساعة و لم يحضر أحد. بدأ العمال بالخروج من المهجع وبدأت أصوات القهقهات بالعلو . لا أدري ما الذي سبب ذلك، لكن أحدهم تقدم إلي وقال: لا تعرهم اهتمامك يا فتى، عد للداخل واجلب ملابسك. هنا لا يقومون بالمسح مع البراغيث وآلات المسح التي في قطاعك .

  • إذاً ، كيف يتم ذلك؟!
  • ستعرف قريباً .

نادى أحد العمال باسمي وأخذني إلى مكتب مشرف العمال وقدمني له. دخلت المكتب المتواضع وأنا مرتبك ومشغول التفكير. أخبرني المشرف أنه علي الذهاب إلى قسم الأمن لمتابعة اجراءات نقلي واستلم عملي، بعد أن انتهى من وضع معلوماتي الشخصية على حاسبه، أخرج بطاقة ممغنطة عليها صورتي التي التطقها لي، ثم دعاني للانصراف .

بلغت مكتب الأمن فتقدم مني رجل طلب شارتي التعريفية وأدخلني غرفة معقمة ثم طلب مني التعري، ففعلت، ثم مرر جهاز مسح ضوي على كل جسدي وأعاد المسح ثلاث مرات بأضواء مختلفة الألوان . دخلت سيدة ترتدي زياً عسكرياً طلبت مني الجلوس على مقعد تحيطة المعدات الطبية . اعادت السيدة مسح جسدي مجدداً بالاجهزة الأخرى، ثم قامت بوضع لصاقات طبية على ذراعي و قدمي. كان وخز الأبر سريعاً و بالكاد شعرت فيه لكن الإبراة الأخيرة كانت مؤلمة لدرجة بالغة و أحسست بشيء ما يسير داخل جسدي !

انهيت الفحوصات وتسلمت ردائي الأصفر وبطاقتي التي علي وضعها حول عنقي ثم قادني رجل الأمن لأعبر ممراً طويلاً يفصل مبناه عن مبنى آخر حيث يوجد مركبات النقل .

تم نقلي للعمل في حقول البطاطا، هناك لم استطع منع نفسي من طرح الاسئلة على العمال الذين بقوا صامتين دون منحي أي اجابة.

مر الاسبوع الأول وأنا أحاول التأقلم مع هذا الوضع الغريب، وجهدت أن أمنع نفسي من التعري صباحاً للخروج إلى طابور لا يصطف .

بدا أن أحد العمال الذين يشاركوني في مهجع السكن و هو من عمر قريب لعمري، قد أثاره الفضول ليعرف عني فتقدم إلي  و بدأ يطرح علي الاسئلة، عن مكان نشأتي و المستعمرة الرابعة و قصة التعري التي كانت مادة للسخرية من بعضهم .

أجبت على كل اسئلته لكنني طرحت سؤالاً واحداً عليه، "ما الذي وضعته السيدة في جسدي؟!

الصمت ولا شيء أخر، لم يجب على سؤالي الوحيد، تركني ومضى لسريره .

كان علي أن أعرف مدى خطورة الأمر، وكيف لي أن أصل لبيروت لأبقى في أحد مخيماتها.

قرابة العاشرة ليلاً وهو موعد نوم الجميع في المهجع، تقدم الفتى إلى سريري وهمس في أذني : يدخلون براغيث في دمنا، نحن مراقبون طوال الوقت، إذا أردت أن تفعل أي أمر مخالف فأنت تحكم على نفسك بالموت، ستشتعل البراغيث دخلك!

عملت لأشهر عديدة وأنا ارتعد من أي فكرة قد تمر بخاطري، أو احتمال خطأ أقوم به، لا أريد أن أكون شعلة ملتهبة في حقول البطاطا الباردة .

منحت فرصة تحميل البطاطا إلى المركبات عدة مرات، و ها هي فرصتي الأولى بالذهاب مع إحداها لايصالها إلى إحدى المستعمرات على الخط الساحلي للقطاع . لم أحمل معي شيئاً من أغراضي القليلة لكنني لم أنسى برغوتي الثمين الذي نجى هو أيضاً من أجهزة استشعار المعادن في رحلتي إلى البقاع . صنعت منه قلادة أخفيها طوال اليوم و ألبسها أثناء النوم.

وصلنا المستعمرة في الخامسة فجراً، و بدأت العمل لساعة متأخرة من ذلك اليوم، لا حاجة لتفقد العمال ولا لعدهم فلا أحد يجرؤ على المغادرة و الاشتعال في طريق هروبه. لكنني فعلت. هربت من المستودعات بعد أن خلعت ردائي الأصفر و مضيت أتجول في هذا العالم الغريب. لا شيء هنا يشبه أي شيء أعرفه. العربات المتاجر، الملابس التي يرتديها الناس و ألوانها المتنوعة، بدا عالماً خرافياً .

ليست صدفة حقاً، فقد كنت أعرف أن أحد أصدقاء والدي هنا في هذه المستعمرة يعمل نهاراً ويعود لشتات التجمعات خارجها. وجدته يشرب الماء قرب إحدى العربات التي تعيد تدوير القمامة، يعيد ترتيب ما تخرجه الآلة من زجاج ومواد بلاستيكية، ويعيد صفها في المكان المخصص لها على الطريق حيث يتقدم أصحاب المحلات التجارية باستعادة قمامتهم معادة التصنيع .

ألقيت التحية عليه متحمساً لرؤيته فبادلني التحية مندهشاً في وجودي بالمستعمرة. أخبرته أنني هربت وأن علي الوصول للمخيم، أي مخيم كان.

  • ليس سهلاً وصولك لها، تقع خارج سيطرة المستعمرات، مكان خطر على فتى بعمرك. ثم ماذا تريد أن تفعل هناك ؟!
  • تعلم ما حدث في البيرة، يخشى أبي علي هناك، أما أنا فأريد أن أتعلم في المخيم كيف أكون مقاوماً، علي أن أتعلم كيف أواجه البراغيث، لكنني الآن أواجه مصيبة كبيرة.
  • ما هي ما الأمر أخبرني؟
  • لقد وضعوا شيئاً ما في دمي عندما وصلت للعمل في الحقول، قال لي أحدهم أنها براغيث تشتعل داخل جسدي إذا اقدمت على أي عمل طائش، يقتلونهم بهذه الطريقة .
  • لا يا صغيري، لا تصدق كل هذا الكلام، انها املاح معدنية، يقومون بحقنهم بالوهم ! حتى لا يجروء أحد على مقاومتهم، هذا أرخص لهم مما اعتادوا فعله في رام الله . هناك يقاومون لذا لا يمكن أن يخضعوهم بالوهم أما هنا فبلى.
  • لكن كيف ذلك، ألم تخبر أحداً بذلك، لا أصدق .
  • فعلت وفعلنا ذلك، بعد الحرب الكبيرة، سنة 2038 أخذوا يحقنوننا بالاملاح، كما يحدث هنا، لكننا اكتشفنا الأمر وقاومناهم، فقدنا شهداء كثر، ولا تزال المقاومة تحاول أن تستعيد نشاطها، لكنهم غيروا اساليبهم معنا، أما هنا فلا أحد يجرؤ على تصديقنا، لذلك ستجد المخيمات خارج السيطرة فهناك لا يزالون يقاومون، ربما لا يملكون أدوات للمواجهة لكن وعيهم وكشفهم للحقائق بداية لذلك.
  • ستساعدني لبلوغ المخيم؟
  • لا. لكنك ستأتي معي لمنزلي خارج المستعمرة، علينا أن نجد طريقة لاخراج منها بعيداً عن الطائرات الصيادة .

استطاع اخراجي بعد أن وضعني في مستوعب نفايات معدمة، تلك التي لا يمكن اعادة تدويرها، يتم نقلها لخارج المستعمرة وحرقها . لكن المخيم لا زال بعيداً عن منالي.

طلبت منه أن يوصل رسالة لوالدي قلت فيها :

أبي العزيز، لا زلت أنتظر لأحصل على فرصتي بدخول الوعي وترك الوهم خلفي. لا تزال هديتك معي، صنعت منها قلادة أضعها حول عنقي، لا لتمنحني الحظ، بل لتذكرني بسبب وجودي هنا. لا أريد أن أطيل الخطاب، لكنني أريد أن أعلمك أننا عراة حتى ونحن نرتدي كل ثيابنا، وكل الحشرات لا تستطيع أن تمنعني من هدم جدران الوهم حولي وداخلي .

أوصيك أن تبدأ ورفاقك بهدم الوهم والخوف، لكن تذكر أن شمس الحقيقة وحدها لا تقتل البراغيث.