الحدث ــ محمد بدر
انتهت جولة التصعيد العسكري بين قطاع غزة وبين إسرائيل، ولم ينته الجدل في إسرائيل حول ما يسمى بالردع الإسرائيلي وتضرره بعد وخلال هذه الجولة. الجيش الإسرائيلي ردّ على قصف المقاومة الفلسطينية باستهداف مواقع فارغة أصلا، وبحسب تعبير يديعوت أحرنوت العبرية "الجيش استهدف أماكن فارغة لأنه يعلم أنها فارغة.. ولكي يعطي التهدئة فرصة بأن تكون قريبة".
المواقع العبرية وجهت انتقادات كبيرة لسلوك جيش الاحتلال، فيما اعتبر بعض الوزراء ما حدث بمثابة خلخلة لميزان الردع، وأشارت القناة الثانية العبرية للأمر بالقول إن ما حدث سبب انتقادا كبيرا للجيش والحكومة وكشف عن فجوة بين الخطاب السيادي والقوي والفعل الهزيل الذي قام به الجيش.
ما عوامل خروج الجهاد الإسلامي للتصعيد؟
السؤال الأبرز هو لماذا خرج الجهاد الإسلامي بهذه الموجة من التصعيد والرشقات الصاروخية على إسرائيل؟ وهل السبب اغتيال إسرائيل لثلاثة من كوادر جناحه العسكري قبل الموجة الصاروخية بيوم؟ ولماذا لم يخرج الجهاد بهذه الموجة بعد ارتقاء أكثر من 60 شهيدا في يوم واحد على حدود غزة؟.
الإجابة على هذه الأسئلة ترسم صورة حقيقية لأسباب رد جيش الاحتلال المحدود وغير المتوقع في غزة.
بعد ارتقاء 60 شهيدا في غزة في مسيرة العودة، بدأت الأمور تتجه باتجاه "هدنة" طويلة الأمد بين قطاع غزة والاحتلال، الهدنة التي كانت مصر تعمل على إنجازها بشكل سريع، تركزت على تخفيف الوضع الإنساني لحد معقول مقابل وقف كل النشاطات العسكرية للفصائل المقاومة في غزة، ورغم تردد إسرائيل إلا أنها رأت أخيرا أن الأمر من الناحية الاستراتيجية يخدم مصالحها، عمليا؛ إسرائيل معنية بمن يضمن الهدوء على حدودها دون الاهتمام لا بشكله ولا بلونه ولا بخلفياته. اليوم تتحدث عن موافقة على وجود الجيش السوري على الحدود مقابل انسحاب الإيرانيين وعن هدنة مقابل تخفيف الوضع الإنساني مع بقاء حماس كمسيطر فعلي على القطاع.
الهدنة المفترضة لو حدثت كان سيكون لها آثار كبيرة؛ أهمها:
- ضمان الجبهة الجنوبية ما يزيد تركيز إسرائيل على الجبهة الشمالية المتمثلة بخطر الإيرانيين وحزب الله، وستصبح إسرائيل في حالة تفرغ شديد لمعالجة معضلة الشمال معالجة ذات نتائج طويلة الأمد.
- غياب تأثير بعض الفصائل والقوى الفلسطينية كالجهاد الإسلامي والتي تضمن حضورها القوي في الساحة الفلسطينية من خلال السلاح والمواجهة.
- فقدان إيران لساحة تأثير وورقة ضغط في المنطقة وتحييد ورقة ضغط إيرانية في المنطقة.
- زيادة الدور الإقليمي لما يسمى بقوى الإعتدال (مصر والسعودية وقطر) على حساب الدور الإقليمي لقوى الممانعة والمقاومة المتمثلة بإيران.
- فقدان قوى المقاومة لجزء من خطابها الأساسي المتمثل بالقضية الفلسطينية ودعم المقاومة فيها، وهو خطاب يستخدم أحيانا لتكريس شرعية الوجود في بعض الساحات والجبهات العابرة للحدود.
- تخوف الجهاد من أن يتكرر سيناريو 2005، حين اتفقت مصر مع كل الفصائل على تهدئة، ومن ثم استدعت الجهاد وأصبحت الجهاد في مواجهة قرار جامع، ما اضطرها للموافقة.
لقد اجتمعت المصلحة الإيرانية ومصلحة الجهاد الإسلامي بشكل كبير خلال هذه الفترة، والمعادلة لم تكن تأثير حليف على حليف، بل مصلحة الحلفاء أصبحت عمليا واحدة بشكل مركّز جدا، فكان قرار الجهاد بالتصعيد، إضافة لتوفر مناخ حقيقي للخروج بهذه الموجة وهو الفعل العدواني الإسرائيلي على حدود قطاع غزة.
قرار القصف والبدء به
خلال الحديث عن هدنة طويلة الأمد في غزة، بدأ خطاب الجهاد الإسلامي يتصاعد باتجاه التصعيد العسكري، قبل القصف بيومين قال أحد الناطقين باسم الجهاد: "لا يحق لأحد أن يحملنا مسؤولية أي تصعيد بعد اليوم"، وفي تشييع شهداء السرايا قال القيادي في الحركة أحمد المدلل لصحيفة الحدث: "إن الحركة أخذت قرارا بالرد الميداني"، وحملت كلمات المدلل بعدا أحاديا في اتخاذ القرار، رغم أن هناك تفاهامات سابقة بين الفصائل بأن الرد على اعتداءات إسرائيل يجب أن تكون منسقة وبإطار عام.
الساعة 7 صباحا بتاريخ 29/5/2018 بدأت سرايا القدس الذراع العسكري للجهاد الإسلامي بقصف المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش بقذائف الهاون، ورغم أن إسرائيل حاولت امتصاص الرشقات الأولى للقذائف برد محدود إلا أنه بدا أن الجهاد مصممة على مواصلة القصف. هذا القصف يذكرنا بما قامت به مجموعات عسكرية للجهاد في طولكرم من تنفيذ لعمليات استشهادية لإحباط اتفاق التهدئة 2005 والذي كانت ترى فيه الجهاد أنه غير مقنع، حينها توجهت مصر للجهاد بأدلة تشير إلى أن قرار العمليات الفدائية كان من مستويات سياسية قيادية في الجهاد بهدف إحباط الإتفاق.
حماس وجدت نفسها غير قادرة على وقف الموجة، فأخذت قرارا بالانضمام إليها بعد ظهر يوم التاريخ المذكور، وأرادت حماس أن تحقق عدة أهداف من خلال هذا الانضمام المتأخر؛ أهمها:
- الانغماس في الموجة لكي تستطيع التأثير فيها وبمجرياتها في وقت لاحق.
- أن لا تظهر بمظهر العاجز عن كبح جماح الجهاد الإسلامي، خاصة وأنها الحاكم الفعلي في غزة.
- تطمينات من قبل الجهاد بأنه إذا توسعت الموجة وتمددت زمنيا فإن إسرائيل لن تكون بخير على الجبهة الشمالية، وستقع إسرائيل تحت قصف جبهتين وستنهي الجبهة الجنوبية بشروط مناسبة للمقاومة والقطاع، وهو الأمر الذي وعد به الجنرال الإيراني قاسم سليماني الجهاد الإسلامي في أكثر من مناسبة بخصوص عدم ترك الجبهة الجنوبية لوحدها.
- تفكيك حالة الانتقاد للحركة والتي واكبت مسيرة العودة، خاصة مع ارتقاء أعداد كبيرة من الشهداء دون رد عسكري رادع لإسرائيل.
- دافع التجربة، وما قد تحققه هذه الموجة من آثار سياسية قد تسرع من عملية مناقشة الحصار، وخلق معطيات جديدة في الواقع.
- رسالة لمصر بأن قطاع غزة لا يمكن أن يبقى تحت رحمة التفاهامات والمناقشات وأنه قد يبادر بخلق قلق إقليمي.
ـ تجاوز حالة الجدل الداخلي في الحركة بخصوص آثار ومجريات مسيرة العودة.
ورغم أن الموجة انتهت إلا أن آثارها لم تنته، وتكشف تصريحات وزراء الكابينيت الإسرائيلي عن فهم حقيقي للدافع وراء هذه الموجة والدافع وراء امتصاصها. وعلى الرغم من محاولة الاحتواء الإسرائيلي إلا أن نتائج ما حدث لم يكن في صالح إسرائيل، لهذه الأسباب:
- إرساء قواعد اشتباك جديدة على حدود القطاع، جعل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وكذلك السياسية في حال تأهب وتوقع مستمر لتصعيد قد يحدث في كل لحظة.
- أعادت الموجة حضورا قويا للجهاد الإسلامي وخياراته في المواجهة على حساب الخيارات "الحوارية" و"الكواليسية" التي كانت تجري ما قبل الموجة الأخيرة.
- أعادت إيران الإعتبار لجبهة تعتبر من أوراق ضغطها في المنطقة، وحاولت إيران أن توصل لإسرائيل رسالة مفادها أن وجود خيارات إيران على الحدود تحصيل حاصل والهدوء وحدة واحدة غير قابل للتجزأة.
- أضعفت الردع الإسرائيلي، ومظاهر العلو الإسرائيلي خاصة مع تكرار القصف في سوريا وتبجح إسرائيل بذلك ومباهاتها بذلك.
- وبالنسبة لنتنياهو، فقد أعادت الموجة أصوات المعارضة للطاولة وهذه المرة من دوافع "الأمن" وليس من منطلقات فساده.
- اليوم، ترى إسرائيل نفسها مضطرة للتعامل بحذر شديد في غزة، والتماشي مع منطق "المواجهة المحتملة".
إن ما حدث في الأيام الأخيرة يثبت جيدا أن الفلسطيني يستطيع أن يفسد على إسرائيل مشاريع كبيرة، وأن الفلسطيني أكبر قوة في مواجهة إسرائيل، وهو القادر على تسيير بعض السياسات الإسرائيلية وتغييرها. ما حدث إعادة اعتبار شديد لكل مكونات الأمة.